الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يؤكد الأنثروبولوجيون والاجتماعيون وعلماء الأجناس وفلاسفة الحضارة أن البيئة والثقافة السائدة فى مجتمع ما من أهم المؤثرات التى تشكل بنية هوية الأفراد والعقل الجمعى والروح الكلية عبر العصور. أما ثوابت تلك الهوية ومتغيراتها فالمسئول عنها هم قادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد التنوير، فهم دون غيرهم المعنيون بتحديد مشخصات تلك الهوية تبعًا لتصوراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم. وإذا ما فسدت هذه العصبة ـ التى نطلق عليها جماعة النخبة أو الطبقة الوسطى. 
وعليه فمن الخطأ الاعتقاد بأن هوية الأفراد أو (الذات، الأنا) (Identity) تنفصل عن البنية الثقافية التى نبتت فيها واصطبغت بصبغتها وأضحت موروثًا أصيلًا يميزها عن غيرها، فحديث قدماء الفلاسفة حتى القرن السابع عشر عن استقلال النفس من حيث الطباع والعقل والقيم الأخلاقية عن الثقافة السائدة فى مجتمع ما، أضحى من النظريات المشكوك فى صحتها؛ فقد جاء الفيلسوف الاسكتلندى «هيوم» (١٧١١-١٧٧٦) م ليؤكد أن هوية الأفراد والجماعات ليست فطرية بل هى مكتسبة من الثقافة السائدة فى مجتمع وعصر ما ثم تتوارثها الأجيال بالممارسة والمعايشة أى أن الهوية تتكون من حصاد الخبرات المتراكمة (نظرية الحزمة).
وإلى مثل ذلك ذهب الفيلسوف الفرنسى «إيميل دوركايم» (١٨٥٨-١٩١٧)م مبينًا أن هوية الأفراد ما هى إلا وليدة المجتمع وليس العكس، وقد نقض بذلك تصور الليبراليين الذين نزعوا إلى أن ثقافة المجتمع لا تخرج عن كونها عقدًا اجتماعيًا أبرمه الأفراد فيما بينهم على تحديد ثوابت ومتغيرات الروح الجمعية أو الرأى العام. 
وبين هذا الرأى وذاك يقدم الفيلسوف الأمريكى «جورج هربرت ميد» (١٨٦٣-١٩٣١) م تصورًا وسطًا، إذ يفرق بين الأنا أو الذات الفاعلة والشخص باعتباره فردًا منفعلًا للثقافة والمجتمع الذى يعيش فيه، وعليه تصبح الهوية مجموع انتماءات الأنا النفسية والشعورية وقناعاتها من جهة، ومدى إيمانها وولائها وانضوائها تحت عباءة العقل الجمعى بما فيه من قيم وعقائد ومعارف من جهة أخرى. 
وتمضى الدراسات المعاصرة فى هذا السبيل، فها هو عالم الاجتماع الكندى ارفنج جوفمان (١٩٢٢-١٩٨٢) م يوضح أن وعى الأنا بمشخصاتها هو الضامن لبقاء الهوية دون تغير (إيجابًا أو سلبًا)، فإذا ما جمد الوعى أضحت الثقافة السائدة رجعية ومتخلفة، أما فى حالة تجديده بفعل العقول المبدعة والمنفتحة على الأغيار لاكتساب النافع والصالح لثوابت المشخصات فإن مثل ذلك الفعل يحمى الهوية من خطر التلوث والجموح والجنوح والفساد. 
ويرى عالم النفس الألمانى «اريك اريكسون» (١٩٠٢-١٩٩٤) م أن أزمة الهوية تولد من ذلك الصراع النفسى بين الإلزام والالتزام أو الانتماء والانضواء أو قناعات الأنا وقيود المجتمع وضوابطه، ومن ثم فإن إحساس الفرد بالاغتراب وسط أهله وعشيرته وجيرانه ومواطنيه وبنى جلدته يدفعه إلى التمرد على هويته ومشخصاتها واعتناق هوية أخرى وثقافة مغايرة.
ويضيف الفيلسوف الجزائري-الفرنسى «ألتوسير» (١٩١٨-١٩٩٠)م أن الأيديولوجيات هى التى تدفع الهوية للانتماء أو الاغتراب، وذلك تبعًا للقدر الذى يشعر فى ظلها الفرد بوجوده من عدمه، وذلك لأن الجوامع والكنائس والمؤسسات الثقافية والإعلامية هى التى تفرض تلك الأيديولوجيات لتسبغ بها هوية الأفراد فى جُل المجتمعات.
بينما يعول الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو (١٩٢٦-١٩٨٤) م على أن علة ظهور الخطابات الجانحة أو المتطرفة لا ترد إلى الإحساس بالاغتراب تجاه الثقافة السائدة فحسب، بل ترد للميول الذاتية والخصال الشخصية أيضًا، ومن ثم يحاول الجانحون الرافضون للعقل الجمعى الثورة على ما فيه من قيم، اعتقادًا منهم بأنهم أصحاب ثورات للتصحيح والتغيير منطلقة من وعيهم بحقائق قد غابت عن ذلك العقل الجمعى أو الثقافة السائدة. ومن ثم تصبح خطابات الشواذ جنسيًا والمجترئين عقديًا والجانحين أخلاقيًا والإرهابيين سلوكيًا والمتعصبين فكريًا من أشكال تلوث الهوية وذلك بغض النظر عن مصدر ذلك التلوث داخليًا كان أو خارجيًا.
وإذا ما انتقلنا من ذلك التنظير الفلسفى إلى مناقشة واقعنا المعيش، سوف نجد الهوية المصرية قد تميزت عن غيرها بطبائع نفسية وخصال أخلاقية ومنازع سلوكية وأحاسيس ذوقية ومشاعر وجدانية وقناعات عقدية وعوائد اجتماعية لم تتعرض للعطب أو الفساد إلا بفعل مؤثرات خارجية (الغزو، القهر، الاضمحلال الثقافى، فساد المؤسسات الحاكمة، غيبة البطل أو الطبقة الوسطى المسئولة عن تربية الرأى العام)، أى أن الشخصية المصرية لم تتمرد من الداخل على طبيعتها أو ثوابتها التليدة (الخيرية، الانتماء إلى الأرض والولاء للجماعة، المسالمة، الشجاعة، الألفة، الاستقرار، البناء، المرونة، التفاؤل والأمل فى غدٍ أفضل، الضحك والسخرية من الواقع، الحياء، الجرأة، العفة، الإخلاص، القدرة على تحويل الإلزام إلى التزام وتحويل الأزمات إلى عزائم تبدل المحن والعثرات إلى انتصارات، تقديم الصبر على الثورة والتمرد، تقديس الحاكم واحترام القادة باعتبارهم عين الحقيقة وصوت القدر، الإيمان بفلسفة الممكن والتحايل على المستحيل). 
وللحديث بقية