الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الاقتصاد في عالم "جلال أمين"

الدكتور جلال أمين
الدكتور جلال أمين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يأتي الإعلان عن فوز المفكر والاقتصادي الكبير الدكتور جلال أمين بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها السادسة في مجال الدراسات الاقتصادية في فرع الثقافة، ليؤكد على الجانب الأساسي الذي تميز فيه فكر أمين، الذي عرفه الكثيرون مُفكرًا يتكلم في التاريخ والأحداث السياسية والتاريخية والعلوم الإنسانية؛ رغم أن الرجل في الأساس يعمل أستاذًا للاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
في السطور القادمة نتناول كتابين من أهم ما كتبه المفكر والاقتصادي المصري الكبير، وهما "فلسفة علم الاقتصاد" و"قصة الاقتصاد المصري"، وهما من أشهر كتبه، حيث يُفند في الأول كل ما يتعلق بالاقتصاد أمام قارئه، وفي الثاني يروي ما حدث للاقتصاد المصري في الدولة الحديثة، منذ تربع محمد علي على أريكة الوالي في قلعة الجبل، وحتى استمر مبارك في إغراق مصر بالديون.
"فلسفة الاقتصاد".. الكشف عن الحقائق:
يتناول أمين عبر صفحات كتابه "فلسفة علم الاقتصاد: البحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد"، الكشف عن الحقائق الكامنة وراء مبادئ وأسس علم الاقتصاد التي لا تخضع وفق رأيه لصفة العلمية، موضحًا في مقدمة هذا الكتاب أن علم الاقتصاد سيطرت عليه منذ نشأته مجموعة من الأفكار كانت نتاج ظروف عصر معين، هو عصر نمو الإنتاج الصناعي والثورة الصناعية، وأن علم الاقتصاد كما يتم تدريسه اليوم يحمل نفس الملامح التي كانت له في نشأته الأولى.
ويحاول المفكر الكبير في الفصل الأول "التحيز في العلم" أن يثبت أن البشر شاءوا أم أبوا بطبيعتهم متحيزون، حيث أن الإنسان يتكون من مشاعر تؤثر على اتخاذ قراراته عبر ما يسمى" الانطباعات المسبقة"، كما أن اللغة أيضًا يكون لها عامل مؤثر في عملية التفكير؛ لكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار حتمية الميتافيزيقا التي تعني تأثير الجوانب غير المادية على عملية التفكير واتخاذ القرارات، مُستشهدًا بقول الألماني إيريك فروم "الأفكار المسبقة واعتناق أيديولوجية، واتخاذها كمسلمات لا تقبل المناقشة، تقوم لدى الإنسان مقام الغرائز عند الحيوان"؛ أما الفصل الثاني "التحيز في علم الاقتصاد" فيوضح من خلاله أن هناك عدة عوامل ساهمت في ظهور علم الاقتصاد تتمثل في التطور الكبير في العلوم الطبيعية ورغبة المهتمين بالأمور الاقتصادية بإقامة علم اقتصادي يشبه إلى حد كبير العلوم الطبيعية، وكذلك سيطرة الطبقة المتوسطة على رأس المال والإنتاج منذ القرن الثامن عشر وما تلاه والسعي نحو تعظيم الربح، وزيادة نمو الإنتاج الصناعي مع الثورة الصناعية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى أن أصبح علم الاقتصاد بالشكل الحالي له.
وينتقد أمين في الفصل الثالث "الإنتاج" الأسس التي قامت عليها نظرية الإنتاج، حيث يرى قصور تلك النظرية عن استيعاب كل الأنشطة الإنسانية؛ وفي الفصل الرابع "السكان" يوجه نقدًا لاذعًا لمقالة الاقتصادي البريطاني مالتوس "بحث في مبدأ السكان"، حيث كانت المقالة بمثابة فرصة سانحة للحكومات والأثرياء لمزيد من استغلال الفقراء، وأتاحت ادعاء أن النمو السكاني هو السبب في فقر البلاد، كما طالب أن تظل الثروة في يد الأثرياء، وأن تظل الأجور عند حد الكفاف، فإذا ما زادت الأجور عن هذا المستوى فإن ذلك ينذر بمزيد من الانفجار السكاني.
ويأتي الفصل الخامس "الملكية الخاصة" مُظهرًا القدسية التي سادت مبدأ الملكية الخاصة والتي نبعت من ظروف اقتصادية واجتماعية معينة سادت خلال فترة عصر الإقطاع من ملكية العبيد والأراضي الزراعية ثم فترة الثورة الصناعية وسيطرة الطبقة المتوسطة على وسائل الإنتاج، هذه الظروف لم تعد الآن قائمة خاصة وأن العصر الحالي أصبح يطلق عليه "عصر الاستعمال"؛ فيما يتناول الفصل السادس "الاستهلاك" الأسس غير العلمية لنظرية الاستهلاك، حيث أن الاقتصاديين يرون أن النشاط الاستهلاكي إنما يتم فقط في حالة عملية البيع والشراء.
"قصة الاقتصاد المصري".. الاقتراض من إسماعيل إلى مبارك:
وفي كتابه "قصة الاقتصاد المصري.. من عهد محمد علي إلى عهد مبارك" الذي قسّمه ثلاثة عشر فصلًا مقسمة تاريخيًا وفق ولاية الحكام، يتناول أمين محاولة مصر تحقيق الاستقلال الاقتصادي منذ عهد محمد علي، ولكن كانت هذه المحاولات تواجه بمشكلات التمويل، ومحاولات السيطرة الخارجية؛ مُشيرًا إلى أن الإرادات كانت مختلفة من حاكم إلى آخر في الاستجابة للضغوط الخارجية أو إشكالية التعايش مع هذه السيطرة، سواء عبر قبولها أو السعي إليها، إلا أن من قبلوا هذه السيطرة وحاولوا التخلص منها كانت حياتهم أو سلطتهم هي الثمن المقابل لذلك.
ويركز الكتاب منذ صفحاته الأولى على قضية تمويل التنمية، ومدى النجاح أو الفشل في الاعتماد على مصادر تمويل محلية، أو صنع سياسة اقتصادية تعمل على تفادي الانزلاق في مأزق الديون؛ فيصف عهد محمد علي بأنه عهد التنمية بلا ديون، وأنه نجح في أن ينفذ العديد من مشروعاته التنموية في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة، بعيدًا عن التمويل الخارجي، واعتماده آلية الاقتراض من الدخل، والسداد من خلال تحقيق وفورات التجارة الخارجية؛ ولفت إلى حجم الضغوط التي مورست على الباشا من قبل أوروبا لتحجيم تجربته وحصرها في إطار قُطري لا يتجاوز مصر، وأن يدور في فلك الاقتصاد الأوروبي؛ والذي لم يكن منفصلا عن الاقتصاد الغربي بل اندمج فيه عبر حجم تجارته الخارجية الواسعة مع الغرب، أو من خلال استيراده للعدد والآلات اللازمة لتطوير المصانع، أو تطوير الزراعة ومشروعات الري.
وتشير الفصول التالية في الكتاب إلى أن بقية أولاد محمد علي لم يكونوا على هذه الشاكلة، فاتسم عهدهم بأنه عهد الديون بلا تنمية. حيث انغلق عباس على نفسه ولم تطل فترة حكمه، ثم ولي الأمر من بعده شقيقه سعيد الذي اتخذ من ولائه للغرب وصداقته لسفراء وقناصل الدول الأوروبية مطية لاستمرار حكمه، وقد تورط سعيد في الديون الغربية سواء من خلال الاقتراض بشكل شخصي من فرنسا أو اقتراض باسم حكومته من قبل مصرف ألماني؛ لكن الأمر المهم في حقبة سعيد هو توقيعه على عقد امتياز قناة السويس الذي يذكر الكتاب أن سعيد لم يقرأ هذا العقد، ولم يعرضه على مستشاريه، ثقة في صديقه ديليسبس، وانتهت ولاية سعيد بمقتله وديون على مصر بنحو 18 مليون جنيه إسترليني؛ ولم يكن عهد إسماعيل بأفضل من سعيد، حيث سيطرت عليه فكرة إعادة بناء المدن المصرية على غرار المدن الأوروبية، إلا أنه تمادى في الاقتراض من الخارج بشكل كبير، حتى وقعت مصر تحت سيطرة الإدارة الأجنبية على مقدراتها المالية؛ لينشأ "صندوق الدين"، وقد وصلت ديون مصر الخارجية التي حصل عليها إسماعيل نحو 53 مليون جنيه إسترليني، وعند محاولة التخلص من الوصاية الأوروبية على إدارة المالية المصرية، سارعت الدول الأوروبية بعزله عبر الدولة العثمانية.
ومع دخول إنجلترا الحرب العالمية الأولى والثانية، استطاعت مصر سداد ديونها، بل وإدانتها لإنجلترا بنحو 345 مليون جنيه إسترليني مع نهاية الحرب الثانية؛ ثم ينتقل إلى عهد يوليو، وعلى الرغم من الإشادة بتجربة عبد الناصر الاقتصادية لكنه أخذ عليه اعتماده على المعونات الغذائية الأمريكية عشر سنوات.
كذلك كان حجم الإنفاق الكبير الذي تم في عهد عبد الناصر عبر الإنفاق على التنمية وتسليح الجيش، والعمل على زيادة الدخول والاستهلاك لأفراد المجتمع، وكذلك توجهاته القومية والأفريقية لمساعدة الحركات التحررية، وحرب اليمن، جعلته مضطرًا للجوء للاقتراض من الخارج؛ وكان إجمالي ديون مصر الخارجية نهاية عهد عبد الناصر لم يتجاوز 1.3 مليار دولار. مع الأخذ في الاعتبار ما قام به عبد الناصر من تمويل لإقامة السد العالي، ويذكر أيضًا ما تعرض له الاقتصاد بعد هزيمة 1967، وانقطاع المعونات الغربية والشرقية بشكل كبير، إلا أن المعونات العربية استطاعت أن تعوض هذه الإمدادات الغربية بشكل كبير عبر مؤتمر الاتفاقية العربية الموقعة بالخرطوم عام 1968.
وفي الوقت الذي سرد فيه أمين تجربة كل من السادات ومبارك في إدارة الاقتصاد، فإنه يرى أوجه شبه شديدة بين إدارة كل من السادات ومبارك وعهدي ابني محمد علي، سعيد وإسماعيل. سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي؛ ففي عهد السادات كانت هناك إغراءات كثيرة من قبل الدائنين الغربيين للسادات للتوسع في الدين، وكذلك الانفتاح الاقتصادي على الغرب واتباع سياسات اقتصادية متناقضة، رغم إتاحة له موارد محلية بعد حرب أكتوبر من خلال قناة السويس أو صادرات البترول أو عوائد العاملين بالخارج، ومع ذلك لم يحسن ترشيدها لتمويل احتياجات الاقتصاد دون اللجوء للاقتراض الخارجي، حيث يقدر الدين الخارجي مع وفاة السادات -وفق تقديرات المؤلف- بنحو 14.3 مليار دولار؛ ولم يرصد تغيرا يُذكر في عهد مبارك من حيث السياسات الاقتصادية أو التوجهات التنموية، حيث أنه أيضًا اعتمد نفس السياسة من توسع في الاقتراض من الخارج، وبخاصة بعد مضي السنوات الخمس الأولى من حكمه.
وكانت سياسة الاقتراض الخارجي معتمدة في خطط التنمية لإيمان القائمين بالتخطيط في عهده بأهمية الاقتراض من الخارج، مما ساعد على تفاقم الدين الخارجي بشكل كبير نهاية الثمانينيات ليصل إلى 47.6 مليار دولار مع بداية عام 1990.