الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"ورقة لعب" قصة قصيرة للكاتبة لنا عبدالرحمن

اللوحة للفنان التشكيلي
اللوحة للفنان التشكيلي محمد بسطاوي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ألقت ورق اللعب على الطاولة أمامي، حيث أجلس في أحد المقاهي، ثم وقفت على مقربة خطوات من طاولتي الصغيرة التي أضع عليها بعض الصحف والمجلات، نظرتُ إلى الورق المتناثر على الطاولة، بنت، ولد، وأرقام من الأحمر والأسود. لم أفهم ماذا تريد مني حين رمت الورق على طاولتي وابتعدت. نظرت إليها، كان وجهها ملثمًا، لا تبدو منه إلا العينان. أشارت إلي بحركات من يدها ما يدل على أنها تريد قراءة الطالع.
قلتُ في سرِّي عليّ التخلص منها بسرعة، لا أحب الدجل وادعاء النبوءات. رفعتُ إليها يدي مشيرة بالرفض، سارت نحوي خطوتين لتأخذ ورق اللعب، لكن قبل وصولها إلى طاولتي وحين نظرتُ إلى الورق المنثور إلى جانب الجرائد والمجلات رأيتُ الورق يتحرك، حدقتُ بدقة في البدء لأتأكد أن ما أشاهده حقيقة، كان الورق يتمايل على سطح الطاولة.
نظرت إليها بخوف، خيل إليّ أنها تكتم قهقهة عالية، لكنني تمالكت أعصابي وابتسمت قليلًا، من المؤكد أن وجهي كان شاحبًا، ولا جدوى من مواراة ملامح دهشتي. في تلك اللحظة فكرت أن هذه المرأة تتعامل مع أحد العفاريت وتجعله معاونًا لها في تحقيق مآربها، لكنني تذكرت صديقي الواقعي جدًّا الذي لا يمل من التأكيد أنه لا يوجد شيء اسمه عفاريت، وأنها من صنع خيال البشر، وحين كنت أسأله عن القصص الغريبة التي نسمعها عن هذا العالم، يؤكد لي أن كل هذه الأمور عبارة عن هلوسات سمعية وبصرية. إذن لو قلت له الآن ما حصل معي، لن يصدقني، ولن يقول لي ذلك، لكنه سيكتفي بتمتمة عبارات ما بين «ممكن.. معقول.. لا.. لا.. يمكن كنت تتخيلين». وفي حال إصراري على أن ما رأيته قد حدث فعلًا، أي أن هناك عرافة خبيثة ظهرت في المقهى الذي كنت أقعد فيه، ورمت الأوراق على طاولتي، وأنا.. أنا بعيني رأيت أوراق اللعب تهتز وحدها.. لو قلت ذلك بإصرار، سيحزن في داخله كثيرًا، وسيظن أنه أصابني مرض نفسي من تلك الأمراض التي انتشرت في أيامنا هذه. 
لم يعد بإمكاني أن أطلب منها المغادرة. بعبارة أدق، لم أجرؤ على ذلك، وهي قد أدركت هذا. قالت إنها ستعود بعد دقائق، ابتعدت من أمام الطاولة، ورقها مازال مكانه، لكنه ثابت لا يتحرك. أحسست بانقباض غريب، وخدر في جسدي، سرت نحو الحمام لأغسل وجهي، وأعيد بعض تركيزي.
نظرت في مرآة الحمام، بدا وجهي شاحبًا، فتحت حنفية الماء وبدأتُ أغسل وجهي ويدي، فركت عيني أيضًا، أحسستُ بالراحة. أمامي تمامًا، رأيتُ في المرآة انعكاس وجه امرأة خرجت من باب الحمام المغلق، وقفت مكشوفة الوجه والرأس، ابتسمت لي، كان وجهها شديد البهتان والصفرة، وكانت عيناها خاليتين من الرموش والحواجب، شعرها خفيف جدًّا، أبيض مع خصلات قليلة بنية، أحسست بقشعريرة، هيأتها ذكرتني بالأيام الأخيرة لقريبتنا وداد حين كانت في المستشفى تتلقى العلاج الكيميائي لسرطان العظم، هذا الذبول أعرفه جيدًا، خصلات الشعر المتساقطة تاركة مسامات مفتوحة في الرأس، ثم ابتسامة ساخرة من الحياة المراوغة. سألتني إن كان معي منديل، ميزتُ لكنتها العراقية، سألتُها إن كانت من العراق، هزت رأسها إيجابًا، ناولتها المنديل بسرعة ودخلتُ إلى الحمام، عندما خرجت لم أجدها.
حين عدت إلى طاولتي لم أجد ورق اللعب على الطاولة. فقط الصحف والمجلات الخاصة بي، جلست أنتظر عودة العرافة لكن مضى أكثر من نصف ساعة ولم تأتِ. ناديتُ على الجارسون وسألته عن امرأة تضع غطاءً على وجهها، تطوفُ بين الطاولات وتقرأ الطالع بالورق، أكد لي أنه لم يدخل المقهى سيدة بالمواصفات التي ذكرتها.
غادرت المقهى وإحساس غريب بالتشوش، سرت في الشارع المزدحم وقررت الدخول إلى «المول» الكبير، أن أتوه في الزحام لساعة لساعتين، ربما أتمكن من نسيان ما حصل.
حين خرجت كان الوقت مساء، ومازلت أفكر.
هناك ثلاثة تفاسير.. لا.. لا.. ربما تكون أربعة أو أكثر. 
ربما تكون هذه السيدة حقيقية، ورق اللعب اهتز أمامي على الطاولة فعلًا، لكنها غادرت المقهى لسبب أجهله. ربما ما حدث جزء من الحقيقة فقط، أي أن يكون هناك امرأة ظهرت بالفعل ورمت ورق اللعب أمامي وعرضت عليّ قراءة الطالع، لكن الورق لم يهتز أبدًا.
لكن لماذا لا تكون هذه المرأة ممن يمارسون ألعاب خفة اليد، أو أن لها قدرات معينة تمكنها من تحريك الأشياء عن بعد، وهذا مثبت علميًّا، وليس له علاقة بالجان والعفاريت.
ما أخشاه أن يكون صحيحًا ما سيفكر به صديقي الفيلسوف، أي أنني تخيلت كل ما حصل، وأنني مصابة بهلوسات بصرية.
هل هناك احتمالات أخرى؟
في أي الاحتمالات تكمن الحقيقة؟ ومن يملك يقينًا لأي شيء؟
أسير بسرعة، أندفع وسط الجموع التي تتحرك في الشارع، البرد شديد جدًّا، وأنا أحس بالتعب والحاجة إلى العودة إلى غرفتي. توقفت لأشتري الذرة المسلوقة، وجبة تذكرني بأيام الطفولة. البائع كان عراقيًّا أيضًا، فهو شاب لا يتجاوز الثلاثين من عمره، أخذ مني المال وهو يتحدث مع شاب آخر عن اضطراره للسفر إلى بغداد بعد أسبوعين ثم يعود لتسوية أمور الإقامة. تذكرت «مهند»، صوت بائع الذرة ولهجته جعلت «مهند» يحضر في ذاكرتي سريعًا، ماذا يفعل الآن في إيطاليا، ربما يرسم وجوه العابرين في الشارع، مقابل بعض المال. بدأت قصتنا بسرعة وانتهت مع قراره بالسفر. الحب دائمًا يهزم أمام المال. ماذا لو كان «مهند» هنا.. لو حكيت له عن المرأة العرافة.. أظن أنه سيصدقني.. 
يداي تمسكان الكتب والجرائد التي معي، وباليد الأخرى ألتهم كوز الذرة الساخن. أحاول إيصال شيء من سخونته إلى جسدي البارد.
دخلت غرفتي، أحسست ببعض الدفء.
سأنسى الحكاية كلها. حكاية المرأة المنتقبة التي ادعت أنها تريد قراءة طالعي، سأنسى أيضًا وجه المرأة المريضة التي رأيتها في الحمام. سأنسى تفاصيل هذا اليوم، سأنسى صوت بائع الذرة الذي يقف في البرد، سأنسى وجه «مهند» أيضًا.
لن أبوح بهذه التفاصيل لأي كائن. لن أخبر صديقي الفيلسوف بكل ما حصل، سأُسقط الصور من ذاكرتي كما أسقطتُ أشياء أخرى لم أجد لها تبريرًا منطقيًّا.
حين وضعتُ ما أحمله من كتب وجرائد على الطاولة، سقطت على الأرض ورقة لعب.