الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

عبدالحكيم قاسم.. من سجن الواحات إلى نوبات الحراسة

عبد الحكيم قاسم
عبد الحكيم قاسم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن عبدالحكيم قاسم واحدًا من أولئك الأدباء الذين برعوا في تسويق أنفسهم على ناصية السلطة، لم ينتم إلى عوالم الأعلى مبيعًا، أو ينضم إلى من وصفوهم فيما بعد بأنهم "مثقفو السلطة"، تمرد إنسانيًا وأدبيًا، فخرج عن القواعد التي سطرها سابقوه في عالم الأدب وصنع عالمًا متفردًا عاشت فيه حكاياته.
غاص قاسم بأعماله في مفاصل وعروق القرية المصرية فصار من أهم من كتبوا عنها، وبث تفاصيلها في أذهان قراءه فجعلها لا تُنسى، وحتى إيمانه العميق بثورة يوليو كان دافعه للوقوف في وجه من انحرفوا بها دفاعًا عن مسار آمن به وحلم بتحقيقه؛ وبينما ظل لسنوات نزيلًا لأعتى الغرف المُقبضة، كان هناك من يحشرون أكتافهم للبقاء في دائرة الضوء.
دفع قاسم ثمن مواقفه كاملًا طوال حياته، فمن سجن الواحات الذي ارتجفت فيه أوصال أعتى الثابتين، إلى التجاهل والتهميش المتعمد من السلطة المعتمدة على الكثير ممن يقلون عنه موهبة، حتى إجباره على الرحيل إلى بلاد باردة يسعى المهاجرين فيها فقط إلى النجاة والاستمرار يومًا آخر؛ وكانت عودته إلى البلاد التي عشقها المسمار الأخير في نعش صموده أمام الحياة، فلم يستطع الاستمرار طويلًا وسط كل الزيف المحيط به.
شهدت قرية ميت القرشي بمحافظة الدقهلية صرخة عبد الحكيم قاسم الأولى في بيت جده لأمه، وحسب الأوراق الرسمية فهو مولود في الأول من يناير عام 1935، لكنه ذكر أنه سأل والدته عن تاريخ ميلاده الحقيقي فأخبرته بأنه الخامس من نوفمبر عام 1934، ولكن عامل التليفون في قرية والده، التابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية، أرجأ قيد الاسم في الدفاتر حتى أول العام؛ وفي سن التاسعة التحق بمدرسة الأقباط الابتدائية بميت غمر، وعاش في بيت جده وكان يعود لأسرته في الإجازات الصيفية، ثم درس في مدرسة الناصر الثانوية بطنطا.
في عام 1954 ذهب عبد الحكيم للإقامة في القاهرة، وكان قد أصيب بالملاريا، وعانى من تردي أحواله الدراسية، وكان يسكن بغرفة بإحدى عمارات شبرا؛ وفي العام التالي التحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وتطوع بعدها بعام في الحرس الوطني للدفاع عن مدينة الإسكندرية بعد وقوع العدوان الثلاثي؛ ثُم لم يستطع إكمال دراسته بسبب مرض والده وتدهور أحواله المالية، فترك الجامعة وعاد إلى القاهرة ليلتحق بعمل كتابي في هيئة البريد، ولكنه عاد يكافح حتى استطاع إكمال دراسته والحصول على الليسانس عام 1966، وعمل بعدها موظفًا في الهيئة العامة للتامين والمعاشات.
في ديسمبر عام 1959 تم القبض على عبد الحكيم بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي المصري، وحكمت عليه المحكمة بالسجن خمس سنوات، قضاها في سجن الواحات الذي خرج منه في مايو 1964، وعمل بعدها في مكتبة ركسان أرملة شهدي عطيه الشافعي؛ وعانى من اضطهاد السلطة حتى جاء عام 1974، فسافر إلى برلين الغربية لحضور ندوة، ولكنه استقر بها أحد عشر عامًا، عاشها في المدينة المنقسمة آنذاك إلى شطرين، وشرع في الإعداد لأطروحة الدكتوراه عن الأدب المصري، وتحديدًا عن جيل الستينات الذي ينتمي إليه، والمتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وقواعد الكبار مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ليُظهر تفرده الإبداعي ورموزه الجديدة مثل إدوار الخراط وإبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي؛ إلا أن مشاغل الحياة في برلين، وضياع وقته في البحث عن الرزق - حيث اضطر إلى العمل حارسًا ليلًيا لكي ينفق على عائلته - منعته من استمرار أطروحته، إلى أن عاد خالي الوفاض إلى مصر في عام 1985.
عرفت مصر سطور عبد الحكيم قاسم بداية من عام 1957، عندما كتب أول قصة له بعنوان "العصا الصغيرة"، واشترك بها في مسابقة نادي القصة بالقاهرة لكنها قوبلت بالرفض؛ ثُم بدأ الكتابة الأدبية خلال فترة السجن برواية "أيام الإنسان السبعة"، التي صدرت عام 1969 عن دار الكتاب العربي - وترجمت إلى الإنجليزية عام 1989 - وبعدها نُشرت له "الصندوق" في مجلة الآداب اللبنانية، ثُم تتابع النشر في مجلة "المجلة" التي كان يشرف عليها الأديب يحيى حقي في منتصف الستينيات، وأصدر رواية "محاولة للخروج" عام 1978، ثُم حكايات للأطفال "الصغيران وأفراخ اليمامة"، كما صدرت مجموعته القصصية "ديوان الملحقات" في سلسلة مختارات فصول.
كانت رواية قاسم "قدر الغُرف المُقبِضة" والصادرة عام 1982، واحدة من أهم أعمال أدب السجون في العالم العربي، وأعقبها بمجموعته القصصية "الأشواق والأسى" التي ضمت تسع قصص عام 1984؛ ثُم صدر بعد رحيله عام 1991 كتاب "الديوان الأخير" عن دار شرقيات، والذي ضم 17 قصة قصيرة، وعدة فصول من روايته التي لم تكتمل "كفر سيدي سليم"، والمسرحية الوحيدة التي كتبها لإذاعة البرنامج الثاني عام 1988 "ليل وفانوس ورجال"، ثُم صدر له كتاب "كتابات نوبة الحراسة - رسائل عبد الحكيم قاسم"، والذي ضم فيه الكاتب محمد شعير مراسلاته ورسائله التي كتبها بخط يده؛ وربما كان الكتاب هو أشهر ما نُشر عن أدب الرسائل في الأدب العربي الحديث؛ كما كتبت عن أعماله "الخطاب الروائي في أعمال عبد الحكيم قاسم"، وهي أطروحة دكتوراه في الأدب والنقد والبلاغة للباحث رمضان على منصور عبد الواحد الحضري في كلية الآداب جامعة الزقازيق، وصدرت عام 2001.
عاش قاسم قبل سفره القرية المصرية بكل أبعادها، وكان أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ ينظر إلى كتابته باعتبارها إبداعًا متميزًا - حسبما روى صديقه الروائي سعيد الكفراوي لإحدى وسائل الإعلام الألمانية - وعندما سافر إلى برلين كان بعد صدور روايته الشهيرة "أيام الإنسان السبعة" كانت تلك الفترة كانت دافعًا كبيرًا له، وهو ما ظهر في رسائله التي حكى فيها عن الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية التي كان يذهب إليها وكيف اتسع أفقه عبر لقاء مدينة مثل برلين؛ ورغم أنه استفاد كثيرا من المدينة، لكن قاسم شعر خلال وجوده في ألمانيا بالإهانة بسبب طبيعة المهن التي عمل بها. 
عاد قاسم إلى مصر متمسكًا بثقافته العربية التراثية، وأعلن أنه يعتزم إعادة كتابة أشهر رواياته "أيام الإنسان السبعة" لكي ينقيها من الكلمات المصرية العامية، لكنه لم يستطع أن يتوافق بعد عودته مع التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في فترة غيابه؛ وفي عام 1987 قرر خوض انتخابات مجلس الشعب على قائمة حزب التجمع، ولكنه خسر الانتخابات، ثُم أصيب بنزيف حاد في المخ دخل على أثره المستشفى ليخرج بعد أربعة أشهر مُصابًا بشلل في يده اليمنى أعاقه عن الكتابة بنفسه، وظل يملى زوجته ما يريد كتابته حتى رحيله عن عالمنا في مثل هذا اليوم 13 نوفمبر 1990.