نعَتَها العندليب بفاكهة نادرة، وامتدح عبدالوهاب إحساسها وأعجبت أم كلثوم برشاقة صوتها، وقد قدمت بمسيرتها إبداعات الشعراء والروائيين الكبار، لكن الأهم أنها صارت قطعة من حياتنا؛ فلا يمكن أن يأتي الحب ولحظات الخطوبة والأمومة الجارفة والوطنية الصادقة ونداء المسافر البعيد، إلا معها. ونتذكر مع محبي شادية التي تعاني أزمة صحية حالية، مشوار الفن الجميل.
هي "نور" في اللص والكلاب، و"زهرة" بميرامار، و"حميدة" بزقاق المدق، و"فؤادة" بشيء من الخوف، و"سيدة" بنحن لا نزرع الشوك، و"فاطمة" بـ"المرأة المجهولة" عن مسرحية مدام إكس، وهي أدوار مستقاة من روايات شهيرة جسدتها بعمق شديد أظهر نضجها الفني بعد مرحلة انطلاقتها التي ظلت فيها الأنثى الرقيقة في مخيلة المبدعين، وقد فوجيء محفوظ بأدائها لرواياته التي قدمت منها أربع أعمال هامة، وكانت تلك الأعمال مصاحبة بصوت شادية الشجي.
وقد انتقلت شادية من الغناء والاستعراضات والأفلام، والتي عبرت فيها عن الحب بمفاهيمه المتنوعة من الغرام للأمومة لحب الوطن، وتدرجت للعشق الإلهي والذي كانت ابتهالاتها فيه مصحوبة بدموعها الرقيقة، ومنها "قل ادعو الله" لكمال الطويل و"اللهم اقبل دعايا" لبليغ حمدي، و"سبحان الله" للسنباطي، و"يا مقسم الأرزاق" لعلي إسماعيل" وهي المرحلة التي استقرت عندها معتزة بمشوارها كفنانة ومفضلة الاعتزال بعز نجوميتها بعد تقديم مسرحيتها الشهيرة "ريا وسكينة".
وكانت شادية تجالس الكبار وصفوة المجتمع بصحبة مصطفى أمين، الكاتب الصحفي الأشهر والذي أحبته ووجدت فيه ملاذًا لروحها وكان أول من أحبتهم قد استشهد بحرب فلسطين 1948، ثم تزوجت من عماد حمدي الفنان الذي يكبرها سنًّا، وجمعتها علاقة حب بفريد الأطرش، ومرت بزيجة غير موفقة مع المهندس عزيز فتحي، ولكنها رأت بمصطفى أمين الصديق الذي علمها كيف تفكر بعقلها قبل قلبها ويدفعها للبحث عن أدوار جيدة بعيدًا عن الأدوار الخفيفة التافهة، وأقنعها بالعودة للغناء وكانت قد تركته في الستينيات، ثم تزوجت بالفنان صلاح ذو الفقار ولم يستمر زواجهما كثيرًا بسبب خلافات.
قدمت شادية 112 فيلمًا و10 مسلسلات إذاعية، وكانت نجمة الشباك الأولى في الخمسينيات إلى جانب إسماعيل يس، ويعد دورها في فيلم المرأة المجهولة بنهاية تلك الحقبة بداية أدوارها الحقيقية برأي نقاد الفن بعيدًا عن الأدوار التقليدية، حيث كان عمرها لا يتجاوز 25 عامًا ومع ذلك جسدت دور السيدة التي تتعرض للسجن ظلمًا ويطلقها زوجها وتتجه للغناء وبيع اليانصيب قبل أن يدافع عنها ابنها المحامي الذي عرفها متأخرًا بجريمة قتل لأحد البلطجية حين حاول التعرض لأسرتها. وفي الستينيات قدمت أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة، وتغنت بأشعار الأبنودي ولحّن لها بليغ حمدي.
وقد هجرت الفن والأضواء لغير رجعة في الثمانينيات وحتى اليوم، وكرست وقتها للعلم والعبادة ورعاية الأيتام حيث حُرمت من نعمة الإنجاب، رغم كونها واحدة من صاحبات أشهر أغنيات الأمومة، ومنها أغنية "سيد الحبايب يا ضنايا"، وبرعت بتقديم الأم المحرومة من وليدها، إلى جانب عدد من روائع الأغنيات للأم والتي غنّتها بصدق وشجن كبير، ومنها رائعة عبدالرحيم منصور "أنشودة أمي" التى تقول فيها "قوليلي وطمنيني عن رحلة الطريق.. دفيني ونوريني بكلامك البريء.. يا بحر الحلم الواسع يا سفينة النجاة.. لولاكي ميبقاش معني ولا نبض للحياة".
ولا يغيب وجه "شادية" التي مرت بمخيلة المحبين طيفا ورديا بكلمات دافئة ومنها "شباكنا ستايره حرير" و"علي عش الحب" لمرسي عزيز و"يا دبلة الخطوبة" للبنداري، و"اتعودت عليك يا حبيبي" لعبدالوهاب محمد وفيها تقول "زي الطير ما تعود عشه اتعود عليك".. وهناك المونولوج الشهير الذي جمعها بعبدالحليم حافظ "حاجة غريبة" كلمات حسين السيد وألحان منير مراد، وقد لحن لها الأخير عددا من أشهر أغنياتها المعروفة منها "ألو ألو إحنا هنا" و"إن راح منك يا عين"، وبكلمات شادية تكرست صورة المرأة المحبة لذلك المسافر في البلد الغريب، بكلمات محمد حمزة وألحان الموجي تقول:
وخايفه لما تسافر تنسى انك فايت في بلد الغريب
تنسى انك فايت في بلدك حبيب
وقدمت شادية العديد من المسلسلات الإذاعية الناجحة، ويظل أشهرها "سنة أولى حب" 1974عن رائعة مصطفى أمين، بمشاركة نخبة من كبار الفنانين، وبكلمات التتر لمحمد حمزة "آهين يا عيني وآه يان سنين العمر عطشانة"، كما قدمت عددًا من أشهر كلمات الأبنودي، ومنها "آه يا أسمراني اللون"، كما قدمت أغنية شامية لعمر حلبي "يا طير طيري يا حمامة".
كما جسدت شادية أهم أغنيات التراث الوطني المقاوم، من كلمات مجدي نجيب وألحان بليغ: قولو لعين الشمس ماتحماشي أحسن حبيب القلب صابح ماشي. وغنت لمحمود حسن إسماعيل: رغم صمت الحياة يلهم الثائرين كل يوم ضياه، كما غنت الدرس انتهى لصلاح جاهين بعد ضرب مدرسة "بحر البقر"، وتغنت السيدة الملقبة بـبنت مصر والتي غنت بكلمات الضمراني وألحان الشريعي تقول:
" فاكرة ومش ناسية أبدًا.. أيام ما كنا نسهر نتونس بالقمر.. يضحك لينا القمر.. واتغير الزمان.. واتبدل المكان.. لكن يا مصـر أنتِ.. يا حبيبتي زي ما أنتِ جميلة زي ما أنتِ.. وأصيلة زي ما أنتِ".
ولا يمكن أيضًا التعبير عن شعور المصريين الجارف تجاه بلدهم من دون كلمات شادية، وكانت تعيش أزهى عهود مجدها الفني وقد صار صوتها أكثر عمقًا، وهناك أغنية "أم الصابرين" كلمات عبدالرحيم منصور وألحان بليغ، وفيها تقول "من أرضك أهداني زهرة.. حبيبي.. من فجرك فرحني ببكره.. حبيبي.. يا مصر يا أمنا.. يا مصر يا أرضنا"، وأغنية "يا حبيبتي يا مصر" لمحمد حمزة وألحان بليغ، ومنها تقول "ماشافش الرجال.. السمر الشداد فوق كل المحن.. ولاشاف العناد في عيون الولاد وتحدي الزمن.. ولاشاف إصرار في عيون البشر.. بيقول أحرار ولازم ننتصر".
