السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

الأوبرا الخديوية.. حكايات من زمن جميل

دار الأوبرا الخديوية
دار الأوبرا الخديوية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"كفى سحبًا وأمواجًا ونافورات وعطورًا ليلية.. إننا بحاجة إلى فن موسيقي يعيش على الأرض، موسيقى لكل يوم" مقولة لجان كونتو، وربما يكون فن الأوبرا هو الوحيد الذي يمزج المسرح بالموسيقى والتشكيل والأدب في تركيب ساحر!
وفي ذكرى افتتاح دار الأوبرا الخديوية التي صارت أثرًا بعد عين، نتأمل تلك السطور لرضوى عاشور "ريجوليتو لفردي في ليلة الافتتاح، إسماعيل منتشيًا في المقصورة الخديوية، بجواره الإمبراطورة التي شيد لها قصرًا تنزل فيه أثناء زيارتها للقاهرة، وزوجها نابليون الثالث، وفرانز جوزيف إمبراطور النمسا.. المدير الفرنسي جالس في مكان ما في الصدارة عمال السخرة الذين بنوا الدار ينامون في قراهم، تأخر فردي عامين على ليلة الافتتاح، وأخيرًا "عايدة" عام 1871 أول عرض لها في دار الأوبرا، لحّنها فردي في فيلا سانتا آجاتا بالقرب من بوسيتو في إيطاليا. جاء قائد الأوركسترا والمغني والمغنية والممثلون والعازفون من أوروبا. صُممت الملابس وحِيكت في باريس. 
وقام المصريون بأدوار الكومبارس وعزف الطبول. وأرسل الخديو برقية إلى فردي جاء فيها: "إن اختيارك أيها المايسترو العظيم، تأليف أوبرا تدور وقائعها في دولتي حقق لي أمنيتي في خلق إنتاج وطني".
وقف الناظر في الميدان: "هنا كانت الأوبرا، قطعة من أوروبا. صممها فاشيوني وروسّي على طراز لاسكالا في ميلانو.. الأوبرا في صدر الميدان، إلى يسارها صندوق الدين، ما زال قائمًا.. تطل عبر الشارع، هناك كان فندق شبرد، قطعة صغيرة من إنجلترا، كأنه القنصلية البريطانية.. أحرقه المتظاهرون في يناير عام 1952!
تطلَّع الناظر إلى المبنى الجديد الذي شيد مكان الأوبرا، منبتًّا لا أرضًا قطَع ولا ظهرًا أبقى، لافتة كبيرة كُتب عليها "محافظة القاهرة: المبنى التجاري وجراج الأوبرا" مبنى مصمت يتعاقب على طوابقه الثمانية الإسمنت والزجاج الداكن.. في الجانب الشرقي من الميدان حيث "الأوبرا مول" مبنى تجاري آخر إسمنتي أصم يشكل مكان السينما والملهى القديم".
كانت رضوى في رائعتها "قطعة من أوروبا" تتجه لمقارنة القاهرة الخديوية بمبان عصرية تضارع أوروبا وما حل بها من تدهور، وقد أسسها الخديوي إسماعيل منذ تولي الحكم في مصر عام 1863، وكان عاشقًا للفنون، وقد حوّل القاهرة لبقعة من الجمال المضيء، رغم الحقيقة المؤسفة من الديون المتراكمة على مصر بسبب هذا العمران الفاخر، وقد واكب ذلك افتتاح قناة السويس، فبنيت القصور الفخمة ومنها سراي القبة وقصر عابدين والزعفران حديقة الأندلس وكباري كقصر النيل، ودار الأوبرا القديمة، والتي لا يعرف أحد حتى اليوم لغز حريقها مطلع عصر السادات 1971، واحتراق مقتنياتها التي لا تقدر بثمن باستثناء تمثالين، وقد قيل بأنها المصادفة التي لا يمكن تصديقها!
بعد أن دمرت دار الأوبرا الأصلية، ظلت القاهرة دون دار للأوبرا قرابة العقدين من الزمن، إلى أن تم افتتاح دار أوبرا القاهرة في 1988، بمنحة يابانية.
لكن وضمن حكاياتنا المرتبطة بالأوبرا القديمة، نجد أن الخديو كان يستعين عادة بمصممين معماريين من إيطاليا وفرنسا، ولكنه كان يشترط عليهم نقل الخبرة للمصريين، وجرى ذلك بقصر محمد علي باشا بشبرا وقصر النيل وقصة القبة، وظهرت الأحياء الراقية كحي الزمالك وميدان التحرير وجاردن سيتي وحي عابدين، وظل هذا دأب خلفاء إسماعيل حتى قيام ثورة يوليو، وكانت تلك العمارة تتخذ النمط الأوروبي الكلاسيكي. 
وقد طلب الخديو من المهندسين الإيطاليين أفوسكاني وروسي أن ينتهيا من العمل بالأوبرا في غضون ستة أشهر، مع مراعاة روعة الزخارف والأبهة، فاستعانا برسامين ومثالين ومصورين لتزيين الأوبرا، وجرى افتتاحها في الأول من نوفمبر 1869 بمناسبة زيارة الإمبراطورة أوجيني والإمبراطور فرانسو، وشخصيات أوروبية بارزة بمناسبة افتتاح القناة، واعتبرت الأوبرا هي الأولى بالقارة الإفريقية، واختير الفنان الراحل سليمان نجيب كأول مدير لها.
صنعت الأوبرا من الخشب وكانت تسع 850 مقعدًا. أما موقعها فكان بين منطقة الأزبكية وميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليًّا) في عاصمة مصر.
قصص الحب تصدح
اختيرت قصة من 4 صفحات ألفها عالم الآثار الفرنسي عاشق مصر "أوجست ماريتا" أو ميريت باشا، لتصدح بالأوبرا وتعلنها للعالم، وقد كتب نصها الغنائي الشاعر "الليرتو نزوني" وأودعها للموسيقار فيردي من أجل تأليف أوبرا عايدة وتلقَّى عن ذلك 150 ألف فرنك من الذهب، تكلفت الملابس والديكور 250 ألف فرنك، لكن لم تلحق موعد افتتاح العرض بسبب الظروف السياسية والحرب التي أخرت وصول الملابس.
وللخروج من المأزق اختار فيردي أوبرا "ريجوليتو" عن نص "الملك يلهو" لفيكتور هوجو، والتي كتبها أيضًا الشاعر فرانسيسكو ماريا بياف، وتم عرضها بإيطاليا 1851 ولقيت نجاحًا مبهرًا، مع استبدال شخصية الملك الماجن بمجرد أمير بالبلاط هو شخصية "دون مانتورا" كي تتيح إيطاليا عرضها.
في أوبرا ريجوليتو يتقاسم الأمير الغناء، وهو دوق دي مانتورا من طبقة تينور النبلاء، مع المغنية جليدا التي تجسد شخصية فتاة حسناء متواضعة الحال، ونرى بالخط الدرامي حالة غرام يدعيها الأمير بالبطلة في الوقت الذي يواعد فيه زوجة الدوق تشبرانو، فتأتي سخرية المهرج الأحدث أبيها ريجوليتو فاضحة هذه الطبقة التي تلاعبت بالبسطاء، ثم يختطف عصبة المهرج نفسه ابنته، وحين يكتشف ذلك يقسم على الانتقام. 
ثم في 24 ديسمبر 1871، جاء عرض الرائعة التي تزهو بها الأوبرا حول العالم "عايدة" وقاد الأوركسترا المايسترو جيوفانى بوتزينى، وهو عمل درامي يجسد معنى الواجب والعاطفة وصراعهما؛ فابنة ملك إفريقي أسيرة تحب قائد جيش مصر عدوة بلادها، وتنافسها على حبه ابنة فرعون، وتنتهي القصة برحيل العاشقين ودفنهما بمقبرة واحدة تخليدًا لحبهما.. والعرض تتخلله لوحات راقصة وأغان موسيقية موزعة على 4 فصول، وتجسد قصة حب ربطت الأسيرة الحبشية "عائدة" براداميس قائد الجيش المصري، وقد عوقب بالإعدام من قِبل فرعون مصر بعد محاولته الهرب معها، أما أبطال العرض فهم: أميرة إثيوبية تقع في أسر الجيش، "أمنيريس" ابنة فرعون مصر التي تنافس عايدة في حبها لرادميس، "رادميس": قائد في الجيش يهيم حبًّا بعايدة، فرعون مصر وهو أبو أمنيريس، و"أمونسيرو" ملك الحبشة وأبو عايدة بطلة القصة، وأخيرًا "رامفيس" كبير كهنة فرعون مصر الذي يحكم على رادميس بالموت.
وجوه الفن
وميريت مؤلف العرض الملحمي، عالِم آثار عُرف بحبه لمصر، وتم تعيينه مديرًا للآثار في عهد الخديوي عباس عام 1858، وإليه يرجع الفضل بتجميع التحف المصرية الفرعونية وتخزينها بمتحف بولاق الذي كان نواة المتحف المصري الحالي. 
أما الموسيقار فيردي فقد هرب من الروس فوقع بغرام "عايدة" كما يقول، وكان أحد أشهر موسيقيي أوروبا، ومن أعماله "الصلوات المسائية الصقلية"، "ماكبث"، "الحفل المقنع" و"عطيل" وغيرها من الأعمال الخالدة بالفنون، وكان ذا ثقافة موسيقية رفيعة. 
احتفى أدباء مصر والعرب بتدشين الأوبرا، وكتب الشاعر أحمد شوقي يقول: صنع إسماعيل جلّت يده / كل بنيان على الباني دليل/ أتراها سدة من بابه / فتحت للخير جيلًا بعد جيل؟/ ملعب الأيام إلا أنه / ليس حظ الجد منه بالقليل/ شهد الناس بها "عائدة" / وشجى الأجيال من "فردي" الهديل/وائتنفنا في ذراها دولة ركنها السؤدد والمجد الأثيل".