الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الصورة وتزييف الواقع «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يرى «ريجيس دوبرى» (Debray ١٩٤٠) – فى كتابه حياة الصورة وموتها – أن كلمة «الصورة» لا تكاد تنفصل فى أصلها اللاتينى واليونانى عن عالم الموت. فالطيف أو الشبح – سواء عبر كلمة Spectrum أو Simulacrum – يعنى ببساطة التمثل بالصورة، وكلمة Imago لا تخرج عن معنى البديل. أما فى اليونانية فكلمة εἰκών التى دلت فى الإنجليزية والفرنسية على معانى المعبود أو الصنم، تعنى أيضًا شبح الموتى. كما أن «الصورة» ترتبط بالظلال، فهى– فى الحلم– الصورة التى نراها أثناء النوم Onar والتى غالبًا ما يولدها إله Phasma هو نفسه ليس إلا شبحًا لنفس متوفاة Psyche. ويرى بعض المفكرين أن كلمة «أيديولوجيا» Ideology تمتد جذورها داخل مفهوم «الصورة»، والتفكير بالصورة. وقد جاءت كلمة «أيديولوجيا» من كلمة «فكرة» Idea التى جاءت من الفعل «يرى» To See فى اللغة اليونانية ἰδεῖν، وهو فعل كثيرًا ما كان يتم ربطه بالفكرة العامة حول «الصنم» Idole أو الصورة المرئية Visible Image التى هى فكرة جوهرية فى البصريات ونظريات الإدراك. وكلمة «فكرة» ترتبط كذلك بكلمة Idolum اللاتينية وتعنى صورة بلا مادة وهى مشتقة من الكلمة اليونانية القديمة εἴδωλον التى تعنى «الشكل» Form أو المظهر الخارجى Shape. وهكذا تكون الأفكار التى تُعد تشكيلات عقلية هى - إلى حد ما - نوعًا من الصور التى تكون موجودة فى عقل الفرد، وعند مستوى نشاطه العقلى الأيقونى أو المتعلق بالتفكير بالصورة.
والحق أننا نطلق كلمة «الصورة» على مستويات من الدلالة مختلفة، فالصورة قد تعنى اللوحة المرسومة أو اللقطة الفوتوغرافية، وقد تعنى هذا الذى ينعكس على الأسطح الشفافة كالماء الصافى والمرايا المصقولة وما أشبه، وقد تنصرف دلالتها إلى ما يتراءى لنا فى الأحلام نومًا أو يقظة، وهى – فى كل هذه الدلالات – تتطلب أصلًا راسخًا فى الواقع يُظهر نفسه بوصفه حقيقة تُعد الصورة بالنسبة إليها نسخة وشيئًا غير أصيل إن طابق الواقع مرة، فلن يطابقه مرات. و«الصورة» – على هذا النحو – أقل من الواقع، إنها مجرد نسخة يتدهور فيها الأصل الذى نقيس عليه؛ وهو آخذ فى الشحوب والاضطراب والتحلل. ويؤدى هذا الفهم إلى وضع الواقع أو الحقيقة موضع الشيء الإيجابى الأصيل، بحيث تبدو الصورة الكيان السلبى اللاحق. وتدل «الصورة» أيضًا على المثال بوصفه بنية ماهوية قبلية عند «أفلاطون» – كما سبق القول – وعند «الأفلاطونية المحدثة». و«الصورة» بهذه الدلالة – سواء شاركت المحسوسات فيها أم لم تشارك – تحتل وضعًا يقابل الوضع الأول، أى أنها هنا هى الأصل الإيجابى والبنية الماهوية السابقة، أما الأشياء فإنها نسخ محاكية للصور، بينما تتغير الأشياء وتتحول فى تيار الصيرورة تبقى الصور دائما ثابتة لا يعتريها أى تغير أو نقصان. ويُقصد بها كذلك صورة الفكر– كما عند «أرسطو» (Aristotle (٣٨٤ – ٣٢٢ B.C– أو العبارة من حيث هى صورة لغوية، وامتدت هذه الدلالة وأثرت فى نظرية المعرفة وإشكالية الحقيقة. و«الصورة» على هذا النحو فكرة تتطابق مع الأشياء من جهة، وتتطابق مع العبارة من جهة أخرى. لكن هناك تنوعات وتباينات فى استخدام كلمة «الصورة»، بعضها يرتبط بالصور الإدراكية الخارجية، أو الصور العقلية الداخلية، أو الصور التى تجمع بين الداخل والخارج؛ والبعض الآخر يرتبط بالصور التقنية أو الآلية أو ما يُطلق عليه «الصور الرقمية». ولا شك أن «الصورة» – فى العصر الحديث – لم تعد تعنى مجرد نسخة أو محاكاة للعالم، فالكلمة تعنى الآن صورة منظمة أو صورة متشكلة، وهى نتاج للقدرة التمثيلية الخاصة بالذات، والتى تخلق الواقع من خلال التمثيل. هكذا تطور تاريخ الصور عبر العالم وفى الغرب خاصة.
كانت نظرة «أفلاطون» إلى العالم على أنه مجرد انعكاس للمثل، وما يصاحبها من قول بإن الموجودات المحسوسة ليست سوى مظاهر وأشباح زائلة وصور باهتة لتلك المثل العقلية؛ هى البداية الحقيقية لنظرية «الصورة». ولقد أورد «أفلاطون»– فى الكتابين السادس والسابع من محاورة الجمهورية – سلسلة من التشبيهات تُكون كلها حلقة متكاملة من الصور أو المثل، هى تشبيه «الشمس»، والخط والكهف. هذه التشبيهات لا تهدف – فى واقع الأمر – إلا إلى محاولة الاقتراب من طبيعة المبدأ الأسمى أى مثال «الخير» الذى يتناوله بكل تبجيل وتقديس. فهو يشبه الخير بالشمس، ويشبه العالم الذى يدين بوجوده للخير بالأشياء التى تتلقى نور الشمس ولا ترى إلا بفضله، أما العقل الذى هو وسيلتنا إلى معرفة الخير فهو أشبه بالعين التى هى العضو المختص برؤية النور فى الإنسان. وفى تشبيه الخط، يعرض لدرجات المعرفة، التى تبدأ بظلال الأشياء الواقعية وتنتهى إلى تعقل المثل الخالصة؛ وعلى رأسها «الخير». أما تشبيه الكهف فهو امتداد لهذين التشبيهين السابقين، بل إنه مركب منهما. وهو عبارة عن مقارنة بين نمطين من الحياة: حياة تفتقر إلى الاستنارة مع الظلام فى الكهف – على حد قول «أفلاطون»– وحياة مستنيرة تدرك حقائق الأشياء فى ضوء الشمس. ويتحدث أيضًا – فى محاورة الجمهورية – عن حاسة الإبصار، ويقارن بينها وبين الحواس كافة، ويرى أنها – على عكس الحواس الأخرى – تحتاج إلى شيء أساسى آخر حتى تكتمل عملياتها. وهذا الشيء هو الضوء، ومن ثم «تكون الرابطة التى تجمع بين حاسة الإبصار وإمكان رؤية الشيء أرفع قيمة بكثير من كل الروابط التى تجمع بين بقية الحواس وموضوعاتها، ما دام الضوء شيئًا قيمًا بحق».