الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الألحان القبطية.. عبادة حية متجددة (ملف)

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الكنيسة حافظت على النغمات ألفي عام قبل تدوينها
القس حزقيا سلمون: «القبطية» آخر شكل من خطوط الهيروغليفية
تمتزج في أوقات كثيرة بالدموع المصحوبة بالطلبات الحارة للعلي القدير، وتسمعها بصوت خافت في الصلوات الخاصة بين كل إنسان وربه، فهي تريح النفوس المتعبة، وتنعمها بسلام داخلي وراحة من الهموم، في محاولة للوصول للسلام النفسي والتفكير بشكل أكثر إيمانًا وروحانية، والخروج من دائرة الإحباط والفشل التي يمر بها الكثير، إنها الألحان الكنسية، التي نقلها آباء الكنيسة من أجدادنا الفراعنة ومن جيل إلى جيل، واحتفظت بها الكنيسة المصرية الأولى، وأضافت عليها وطورتها إلى أن وصلت للمرحلة التي هي عليها الآن.
عند الاستماع إلى الموسيقى المصرية القديمة وألحان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإنه لا يشعر بأنه يستمع إلى مجرد موسيقى دينية تدخل في طقوس صماء جامدة، بل إنها عبادة حية متجددة، وبرغم تقليداتها، إذ إنها انتقلت بالتقليد الشفاهي بالتوارث بين الأجيال.
وعند سماع الألحان فإنه يمكن إدراك أن هناك متعة شخصية تتولد من الارتباط بالموسيقى، عندما نتابع بناء جملة موسيقية، وكأنها صرح شامخ يتم بناؤه، فينمو اللحن حتى يصل إلى قمته في التعبير والانفعال، عن طريق النبضات والإحساس الداخلي للمستمع، فتندمج في هذا البناء الروحي، ويتجلى هذا الاندماج في نهاية المقطع، مما يؤكد أن اللحن في الكنيسة القبطية هو فكرة مطروحة للمشاركة، والتجاوب والتفاعل معها يؤدي إلى الاندماج، وبالتواصل الفكري والتجاوب مع اللحن يتم الوصول إلى قمته، فتكون هناك مشاركة بين اللحن الذي يتم سماعه، وبين الشخص الذي يستمع إليه.

فكرة الألحان وتطورها في الكنيسة
ويقول القس حزقيا سلمون، كاهن كنيسة العذراء والأنبا بيشوي، بصفط اللبن بالجيزة: «إن فكرة الألحان توجد من أيام العصر الفرعوني، بدليل أن هناك بعض الألحان القبطية كانت في الأصل ألحانًا فرعونية، مثل لحن «جولجوثا»، وهو لحن الدفنة بالحضارة الفرعونية، وأيضًا لحن «بيك أثرونوس» الذي كان موجودًا قبل المسيحية، وعندما ظهرت المسيحية أخذ جزءًا من التراث الفرعوني واختلط بتراث الكنيسة.
ويشير القس حزقيا سلمون إلى أن الكنيسة القبطية أخذت من الألحان الفرعونية فقط دون الكلمات، وأدخلته للمسيحية بكلمات جديدة تتناسب مع تراث وعقيدة الكنيسة. 
مشيرًا إلى أن الألحان لا تزال باللغة القبطية، لأن أصلها فرعوني، واللغة القبطية هي آخر شكل من خطوط اللغة المصرية القديمة، واللغة القبطية فرعونية نطقًا فقط، أما الكتابة فهي يونانية لتدل على الأصوات القبطية، فيما عدا سبعة حروف ذات أصل فرعوني، ويوجد بعض الألحان تمت ترجمتها إلى لغات أخرى، والبعض الآخر ظل كما هو حتى لا يفقد قيمته.
مشيرًا إلى أن الألحان موجودة منذ بداية تأسيس الكنيسة المصرية، وفي بداية الأمر كانت الألحان قصيرة، ولم يكتف بها المسيحيون الأوائل، وأرادوا إطالتها للحديث مع الله من خلالها، والألحان تعطي فرصة إلى التأمل في الله أكثر، والألحان «لغة الروح»، وتعبر عن الجو العام إلى الصلاة، وتقوم بخلق جو روحاني للأشخاص، وتؤثر في النفس داخليًا وخارجيا، سواء في الحزن أو الفرح، لأنها تشبع العاطفة وتخطب الروح أيضًا.
الحفاظ على الألحان وعصر الاضطهاد
وبحسب كاهن كنيسة العذراء بصفط اللبن، فإنه في عصور اضطهاد المسيحيين في العصور الرومانية وغيرها، كانت الألحان المخزن لقلب وعقل المصلين، حيث ظلت الكنيسة دون كتاب ألحان قبل القرن العشرين ومع بداية الخمسينيات، وكان يتم تسلم الألحان بالتقليد الشفاهي، لأنه حتى ذلك الوقت لم يكن قد بدأ عصر تدوين الألحان، فعمل المعلم ميخائيل جرجس ودكتور راغب مفتاح مدة أربعين سنة بدأ في سنة ١٩٢٨ في حضور الفنان الموسيقى العالمي «نيولاند سميث»، في تسجيل العديد من تراث الألحان، وتدوين النوتات الموسيقية للألحان القبطية دون كلمات.
ويضيف القس حزقيا سلمون أن الألحان ثقافة تختلف من بلد إلى بلد، وتختلف من طائفة إلى طائفة لأنها تراث ثقافي، والتراث المصري يختلف عن تراث الكنيسة السورية وكنيسة الروم، أيضًا يوجد أماكن لتعليم الألحان في مصر، مثل معاهد الدراسات القبطية في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وتُعلم أيضا فى الكنائس الصغيرة ما يسمى بـ«مدرسة الشمامسة»، والألحان لديها القدرة أحيانًا على أن ترجع نفس الإنسان الخاطئ إلى حضن الكنيسة من لحظة دخوله بيت الله، ويمكنها أيضًا التأثير في سلوك الأشخاص، فالشخص الذي يقوم بحفظ الألحان يكون لديه سلام وهدوء من الداخل، لأنها تعمل على تهذيب المشاعر.
ما فعلته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من أجل الحفاظ على الألحان القبطية التي تسلمتها من الآباء الأوائل يُعد معجزة، وإذا كان الغرب يقف مندهشًا أمام آثارنا الفرعونية التي بقيت راسخة آلاف السنين، فإنه يقف أكثر اندهاشًا أمام هذه الألحان، متسائلًا «كيف استطعتم أن تحافظوا على نغمات تتحرك في الهواء وتنتقل بين المشاعر والأحاسيس ألفي عام؟ في أزمنة غابت فيها أجهزة التسجيل؟ وكيف بقيت في قلب الكنيسة هذه الألحان ولم يكن وقتئذ علم التدوين الموسيقى قد وُجد؟».. إنها «معجزة التسليم» أو التواتر بين الأجيال أو «التقليد الشفهي Oral Tradition»، التي تؤكد إصرار الكنيسة القبطية على الحفاظ على كل ما تسلمته من الآباء الرسل.

كتاب «برايل» للألحان
المعلم ميخائيل جرجس البتانوني، الذي ولد في ١٤ سبتمبر سنة ١٨٧٣م بالقاهرة، وكان في صباه يبصر قليلًا، وبعد ثلاث سنين أصيب بالرمد فسلمه والده إلى الكنيسة ليتعلم الألحان، فتتلمذ على يد المرتلين مرقس وأرمانيوس (تلميذي المُعلم تكلا)، وما أن بلغ التاسعة عشرة من عمره رسمه البابا كيرلس الخامس شماسا في سنة ١٨٨٦ م، ثم ارتقى إلى منصب كبير المرتلين في الكاتدرائية المرقسية، بعد أن التحق بالإكليريكية عام ١٨٩١م، وفي ٢ نوفمبر عام ١٨٩٣م عين مدرسا للألحان بالإكليريكية، وكان معروفا بدقته في الأداء وجمال صوته وحفاظه على أصول هذه الألحان، ولم يتوان عن تحصيل وتثبيت الألحان مع كبار المرتلين خاصة بعد انتقال المرتلين مرقس وأرمانيوس.
أسس المعلم ميخائيل مدرسة للعرفاء «العميان» بالزيتون عام ١٩٠١م. وقام بإعداد كتب للألحان القبطية على طريقة «برايل» لمساعدة المكفوفين، ومُنح لقب البكوية لمجهوداته الكبيرة في نقل القداس القبطي إلى اللغة العربية في عهد البابا كيرلس الخامس (١٨٧٤ – ١٩٢٨ م)، المعروف بحبه وإجادته للألحان القبطية، وتوفى في يوم ١٨ إبريل سنة ١٩٥٧م.

تسجيل الألحان صوتيًا
دكتور راغب حبشي مفتاح، من مواليد ١٨٩٨م، ينتمي إلى عائلة قبطية عريقة، تعلم الموسيقى بألمانيا، ومن أهم إنجازاته أنه جمع تراث الألحان القبطية من أفواه المرتلين، وقام بتسجيلها صوتيا على العشرات من أشرطة الكاسيت، وهي «تسجيلات المعهد العالي للدراسات القبطية»، لتكون مرجعًا رئيسيًا لتعليم الألحان لأصوليتها ودقتها، فدون التراث الكنسى الموسيقى القبطي على النوتة حفاظا عليه مدى الدهر.. وكون راغب مفتاح أول خوروس من طلبة الكلية الإكليريكية بمهمشة، من الشمامسة موهوبي الصوت، وخورسين آخرين أحدهما من طلبة الجامعات والثاني من طالبات الجامعات في سنة ١٩٤٥م. وأنشأ مركزين لتسليم الألحان للمعلمين والشمامسة في وسط القاهرة، واحد في مصر القديمة، والآخر بالقرب من ميدان رمسيس، وأسند التدريس فيه إلى المعلم ميخائيل البتانوني، وفي سنة ١٩٥٠م دعا العالمة الموسيقية «مارجريت توت» للتعاون في استكمال تسجيل القداس الباسيلي الذي كان البروفيسور «سميث» قد أعد مرداته، واستمر العمل حتى تم تدوين القداس بكل ألحانه بالنوتة الموسيقية الصوتية شاملا النص باللغات القبطية والإنجليزية والعربية، وتم وضع الحُلي الموسيقية للألحان القبطية التي دونها البروفيسور «سميث». 
توفى راغب مفتاح في يوم ١٨ يونيو سنة ٢٠٠١ م، وقام بالصلاة على جثمانه قداسة البابا شنودة الثالث وعدد من الأساقفة والكهنة وسط مظاهرة حب عظيمة بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
الآلات الموسيقية في الكنيسة
«التريانتو» أي «المثلث»، وهي أداة موسيقية على شكل مثلث، آلة ضبط إيقاع معدنية مثلثة الشكل، تحدِث صوت رنين بالطرق عليها بيد معدنية أخرى، ولم يرِد ذِكر للتريانتو فى كتب الطقس القديمة، وقلَّ استعماله اليوم في الكنائس نوعًا ما، حيث يُكتَفى أحيانًا بالدف لضبط إيقاع الألحان الكنسيّة.
«الدف» آلة موسيقية إيقاعية عربية قديمة، وهي آلة الإيقاع المشهورة التي صاحب إيقاعاتها الألحان والأنغام، والدف مكوَّن من إطار يسمى طارة يشد عليه جلد رقيق على أحد وجهيه وربما من صنوج، وهي هنات مستديرة تجعله كالرق، فالدف والرق هما آلتان من آلات الإيقاع الشرقي الرئيسية تعزف بطرق مختلفة ابتداء من الهز والشخشخة إلى الضرب بأصابع اليد بإيقاعات منتظمة. 
و«الدف» مستدير الشكل غالبًا، يصنع على هيئة إطار من خشب خفيف مشدود عليه جلد رقيق، ويسمى بالرق إذا زينت جوانبه صنوج نحاسية صغيرة لتحلية نقرات الإيقاع، وعند النقر على وسط الدف نقرة تامة ينتج صوتًا يسمى «دم» أو «تم»، أما الصوت الخفيف فينتج من النقر على طرف الدف، ويسمى هذا الصوت «تك دم دم دم تك دم دم تك».