الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مائة عام على بودلير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من بين الإصدارات الفرنسية التى لفتت الانتباه فى الآونة الأخيرة، عددان خاصان كبيران عن بودلير، صادران عن مجلة «لوبوان» وجريدة «لوموند»، وذلك بمناسبة مرور قرن ونصف القرن على رحيله هذا العالم. فالجرائد هنا فى فرنسا ليست فقط جرائد ومجلات؛ وإنما هى أيضًا مؤسسات كبرى تعنى بشئون الثقافة والفكر؛ بل وحتى الدين! والسبب هو أن السياسة وحدها غير كافية لخلع الأهمية والمشروعية والأبّهة على الصحف الفرنسية. السياسة من دون ثقافة صفر، أو حتى مهزلة. حتى جاك شيراك فهم ذلك عندما قال: «نحن رؤساء الجمهوريات عابرون زائلون، على عكس الكتّاب والشعراء والمفكرين الكبار. بعد عشرين سنة لن يبقى لنا اسم».
لكن لنعد إلى صديقنا بودلير والإضاءات الساطعة الملقاة عليه مؤخرا من قبل هذين المنبرين الفرنسيين. فقد كرست له أعداد خاصة بمناسبة مرور ١٥٠ سنة على وفاته كما ذكرنا. وفرنسا الأدبية تحتفل بالذكرى هذه الأيام. بالطبع لن نستطيع التحدث عن كل شيء، فهذا يتطلب مقالات كثيرة وربما مجلدات. ولكن دعونا نطرح هذا السؤال: كيف تحول بودلير إلى أكبر شاعر فرنسى وغطى حتى على فيكتور هوجو فى حين أنه مات مغمورا، مجهولا، فقيرا فقرا مدقعا؟
لنترك حق الكلام لمن هم أكثر منا علما ومعرفة بالموضوع، وأولهم البروفيسور أنطوان كومبانيون، أستاذ الآداب الفرنسية فى «كوليج دو فرنس»، التى هى أعلى من السوربون. فما رأيه؟ إنه يقول ما معناه: إذا كان شارل بودلير يجسد اليوم فى شخصه الشعر الفرنسى فى أعلى تجلياته، فإن الأمر لم يكن هكذا فى السابق. فى الماضى كان فيكتور هوجو هو الذى يمثل ذلك ويتربع على عرش الآداب الفرنسية شعرا ونثرا. والواقع أن مسيرة بودلير نحو الشهرة والمجد ابتدأت بعد وفاته لا فى حياته. وكانت مسيرة طويلة استغرقت أكثر من قرن قبل أن يتربع على عرش الشعر الفرنسى مع رامبو مُزيحًا بذلك فيكتور هوجو. ثم يضيف: «كان بودلير على المستوى الشخصى يعانى هشاشات داخلية وآلام نفسية مبرحة. وعن هذه الهشاشات والآلام الداخلية نتج الشعر بأعظم ما يكون. ويرى بعض النقاد أنه إذا كان ديوان (أزهار الشر) يمثل ذروة الرومانطيقية وخاتمتها، فإن أشعاره النثرية تمثل بداية مطلقة فى تاريخ الشعر الفرنسي؛ فقد دشن قصيدة النثر وخلع عليها المشروعية بفضل موهبته الشعرية الضخمة التى لا تضاهى». أما المقابلة الكبرى التى أجرتها جريدة «لوموند» عن بودلير وأهميته فى تاريخ الشعر، فقد كانت مع البروفيسور آندريه جويو، الأستاذ فى جامعة السوربون. وهو أحد المؤرخين الكبار للأدب الفرنسى إبان القرن التاسع عشر، أى فى الفترة نفسها التى ولد فيها بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه وبقية الكبار. عندما طرحوا عليه السؤال التالي: ما الأحداث الكبرى فى حياة بودلير؟ أجاب: «فى رأيى هناك ثلاثة أحداث أساسية حسمت مصيره. الأول هو زواج أمه بعد وفاة والده بفترة قصيرة وكان عمره فقط ست سنوات. هذا الحدث هدّه هدًّا. وبشكل من الأشكال لم يقم منه أبدًا. فقد كانت أمه له وحده، ينعم بحنانها وظلالها، فإذا بشخص غريب يدخل البيت فجأة لكى ينافسه عليها، بل ويأخذها منه. منذ تلك اللحظة ابتدأ الجرح السيكولوجى أو الصدع الأنطولوجى داخل أعماق بودلير. منذ تلك اللحظة اصطدم لأول مرة بتجربة المرارة. منذ تلك اللحظة عرف أن الشر موجود أيضا؛ بل وينخر فى أحشاء العالم، وليس فقط الانسجام والنقاء والصفاء. هذه الضربة لم يقم منها بودلير حتى وفاته. وقد ظل يلوم أمه عليها حتى آخر لحظة عندما انفجر فى وجهها قائلا: (من كان لها ابن مثلى فلا تتزوج)»! أما الحدث الثانى الذى أثر عليه فى رأى البروفيسور جويو، فهو محاكمة ديوانه «أزهار الشر» من قبل محاكم باريس. فلم يدفّعوه غرامة كبيرة فقط، وإنما شوهوا سمعته بصفته شخصا معاديا للدين المسيحى والأخلاق الفاضلة. أما الحدث الثالث الذى دمر بودلير ونخر فيه من الداخل، فهو إصابته بمرض «السيفليس» أو الزُهَرى وهو مراهق فى أول الشباب. ومعلوم أن هذا المرض كان مرعبا آنذاك ولا علاج له مثل مرض الإيدز حاليا. كان مجرد ذكر اسمه يثير الذعر فى النفوس.
* نقلا عن «الشرق الأوسط»