الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

في ذكرى ميلاده التاسعة بعد المائة.. قُبلة على جبين محمد توفيق

الكاتب مصطفى بيومي
الكاتب مصطفى بيومي .. الفنان العملاق محمد توفيق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مصرى بسيط.. يخطف العين ويسكن القلب

فى ذلك الزمن البعيد القديم، خريف العام ١٩٦٧ كان المسلسل التليفزيونى الأسبوعى «القاهرة والناس» حديث الشعب المصرى بمختلف أطيافه، حلقات منفصلة متصلة، تشتبك مع الحياة الاجتماعية الحقيقية دون تجميل كاذب، وهى بمثابة الموعد الذى ينتظره الملايين ويستغرقون فى أحداثه، أبطال المسلسل مصريون خالصون لا ينتمون إلى عالم مجهول مصنوع مزيف، والأسرة موضوع الحلقات لا تختلف جوهريا عن غيرها من الأسر المتوسطة، وكذلك الأمر بالنسبة للجيران والهموم والمنغصات والتحديات والمشاكل والأزمات، التى تشيع فى العاصمة ولا تنجو منها البقاع المختلفة فى مصر، من الإسكندرية إلى أسوان.

الفنان العملاق محمد توفيق، رب الأسرة فى المسلسل، يخطف العين ويسكن القلب، وله من الحضور الأخاذ المتوهج والجاذبية الطاغية ما يمنح الدفء والشعور بالثقة والأمان. مصرى بسيط قح حتى النخاع. ووجه شائع مألوف تراه كثيرا فى الشارع والمصلحة الحكومية والقهوة ومحطة الأتوبيس ومدرج الكرة، لا تشعر فى حضرته بالغربة والغرابة والنفور، وهيهات هيهات أن تتوهم فكرة التمثيل، فهو من سلالة المبدعين النادرين العباقرة، أولئك الذين يمثلون كأنهم لا يمثلون!
الأستاذ محمد توفيق، المولود فى الرابع والعشرين من أكتوبر سنة ١٩٠٨ من القلائل فى تاريخ التمثيل المصرى الذين يتقنون المهنة ويحبونها، مسلحين بمزيج متكامل من الموهبة والعلم والجدية والالتزام والإيمان غير المحدود برسالة الفن ودوره الخطير فى تشكيل الوجدان والعقل والضمير. لا يتصدر أسمى الأفيشات بطبيعة الحالة، ولا يصنع وجوده رواجا فى شباك التذاكر الذى يقدسه المنتجون، لكنه يعرف جيدا ما يفعل، ويهرول بعيدا عن السطحية والنمطية والافتعال والانفعال الزائف. لا شك أنه كان يستمتع بالتمثيل ويخفى فى أعماقه استياء مزعجا من النجوم وأشباه النجوم، ولا شك أيضا أنه كان يهمس لنفسه: لكم دينكم ولى دين، شيوع الاستسهال والخفة لا يجعل من الاستهتار واللامبالاة قانونا يخضع له الجميع مهللين للقطيع، والفنان الملتزم يؤدى واجبه كاملا غير منقوص، دون نظر إلى سلوك غيره ممن يحظون بالشهرة الزائفة.
شخصيات مركبة
قرنى فى «الوحش» ١٩٥٤، زوج ضعيف خانع يرضى بدور القواد الخصوصى فى فيلم ذى مكانة خاصة فى تاريخ السينما المصرية، الانتقال من الخنوع المزمن إلى التمرد الشجاع ليس ممكنا أو مستساغا، كيف لمن يعيش حياة الذل والهوان أن يسبح فجأة إلى شاطئ الكرامة والعزة؟ فى المواجهة مع عشيق الزوجة محمود المليجى، يتبارز العملاقان فى مباراة تمثيلية ممتعة من طراز فريد، بارتعاش العينين وارتجاف الشفتين وتهدل اليدين، ينكسر قرنى سريعا ويهاجر من خندق الشجاعة التى لا يملك مؤهلاتها، قدره أن يكون تابعا مسلوب الهوية والإرادة، والتراجع مبرره تجسده نظرات صامتة لا تحتاج إلى كلمة واحدة شارحة.
قد يكون الدور قصيرا لا تتجاوز مشاهده أصابع اليد الواحدة، لكنه يترك عند المشاهدين أثرا لا يزول، إنه الصدق الذى يصنع الفارق، والموهبة الأصيلة الراسخة التى لا تصنعها أسواق الدعاية الفجة، لا تختلف عبقرية أداء محمد توفيق للشخصيات المركبة متعددة الأبعاد فى أفلام مثل «سمارة»، و«الأخ الكبير» و«حسن ونعيمة» و«الطريق» و«قنديل أم هاشم»، لا مشترك بين هذه الأفلام إلا محدودية الدور من حيث المساحة، والصدق المذهل فى التعبير، والقدرة المثيرة للدهشة على معايشة الشخصية وترجمتها فى بساطة متوهجة عند المقارنة بالنجوم أصحاب الأسماء الرنانة والشهرة المدوية والأجور الباهظة، يتفوق الفنان القدير الذى يشبه مدرسا ذا كفاءة استثنائية، يتفانى فى العمل وتتخرج على يديه أجيال من الأطباء والمهندسين والقضاة ورجال الأعمال والضباط. كل هؤلاء يسبقونه ماديا واجتماعيا، ولهم من النفوذ والمكانة ما ليس له، لكنه يبقى الأستاذ صاحب الفضل مدرسا مغمورا مجهولا يتقاضى راتبا هزيلا، ويسكن شقة متواضعة، ويركب الأتوبيس والمترو. لا تتبدل ملابسه وهيئته ولا شىء يعيب أو يسىء ويشين والسؤال الجوهرى هنا: ألا يشعر المدرس بالرضا والسعادة لأنه لا يقصر فى أداء الواجب كاملا؟ هذه هى المسألة.

صاحب البصمة
شخصية حافظ، والد فؤادة فى فيلم "شىء من الخوف"، بمثابة العلامة البارزة التى لا تنسى فى المشوار الطويل النبيل للفنان القدير مع التمثيل. فى عمل ناجح متقن البناء، بصحبة كوكبة من الأفذاذ المتألقين، يتوهج محمد توفيق فيوشك المشاهد أن يرى ويسمع تقلصات أمعائى خوفا وذعرا، من فرط البراعة فى تجسيد الارتباك والاضطراب، عندما يواجه الطاغية الشرس عتريس، لا يملك إزاءه إلا الرضوخ المذل المهين، والاستسلام الذى لا متسع معه لإعمال العقل، المشاهد التى يظهر فيها جديرة بأن تدرس فى معاهد وأكاديميات السينما المحلية والعالمية، فالأمر عنده ليس كلمات تقال أو محاولة للاقتراب من انفعال زائف وتقمص سطحى هش، بل هو المعايشة الكاملة التى ينفصل بها عن العالم إنه "حافظ" كما ينبغى أن يكون الأب المشفق المحب، والخوف الكامن بلا نهاية، والكذب الاضطرارى، والحسرة المدمرة الموجعة بعد فوات الأوان.
فى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، يسافر محمد توفيق فى بعثة لدراسة فن التمثيل فى المملكة المتحدة، وهناك يتتلمذ على يدى الفنان الأسطورى لورانس أوليفييس، ثم يعمل مخرجا بالقسم العربى فى هيئة الإذاعة البريطانية، يعود إلى مصر ليشارك عبر عقود متتالية فى مئات الأفلام والمسلسلات، ويخرج للإذاعة والمسرح، ويعمل أستاذا فى معاهد التمثيل بمصر وبعض البلدان العربية.
بعد عبوره الثمانين من عمره، يبهر المشاهدين فى فيلم "سوبر ماركت" ويتجاوز الخامسة والثمانين فى "عفاريت الأسفلت" فلا يبدو عليه الوهن، كأنه قد خلق ليعيش ويموت ممثلا.
هناك فرق
مسلسل «الشوارع الخلفية» فى نسخته الأولى، يشهد تألق الأستاذ فى تجسيد شخصية داود أفندى، وهو الدور الذى يقوم به الفنان سامى العدل فى الإنتاج الثانى للمسلسل، وشتان الفارق بينهما، لا بد أن العبقرى محمد توفيق قد قرأ رواية عبدالرحمن الشرقاوى جيدا، والتهم السيناريو المعد عنها، ثم يضع بصمته فيضفى على شخصية الموظف المهزوم المأزوم المتوتر عمقا يصل به إلى قلوب المشاهدين.
عن رائعة إميل زولا "تيريز راكان" قدم محمد توفيق دورا فقط فى فيلم "لك يوم يا ظالم" الذى أخرجه صلاح أبو سيف سنة ١٩٥٤، وعندما يعاود صلاح تقديم الفيلم فى العام ١٩٧٨ باسم "المجرم" يئول الدور إلى محمد عوض، وما أعظم الفارق بينهما فى الفهم والاستيعاب.
كثيرة هى أفلام ومسلسلات محمد توفيق، ولا متسع لأن يكون البطل صاحب الاسم الأول فى أى من هذه الأعمال، لكنه يسيطر على قلوب وعقول المشاهدين، البطولة، فى الحياة والفن معا، لا ينبغى أن تقاس بالمعايير الكمية والشكلية وحدها، كم من الأبطال يتألقون ويحسبون من أهل الظل.
على مشارف الخامسة والتسعين يغيب العملاق ويغادر دنيانا فى السابع والعشرين من مارس سنة ٢٠٠٣ ويترك آثارا تتحدى الموت وتعانق الخلود.
أوسمة ونياشين وجوائز شتى، لكن التكريم الأكبر يمنحه الجمهور العريض الذى يميز بين الجيد والردىء، وينتصر فى النهاية لكل ما هو جميل صحيح.