الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

المُصلح والإصلاح "حكاية فِكْر"

المُصْلِح الألماني
المُصْلِح الألماني "مارتن لوثر"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يحتفل العالَم الإنْجيلي هذا الشَّهْر بمُناسبة مرور 500 عام على إطْلاق شَرارة الإصْلاح الدِّيني، على يدّ المُصْلِح الألماني "مارتن لوثر" 1517م. وهذه مُناسَبَة مُناسِبَة لنُعِيد إلى ذاكرَتنا ذلك الحَدَث العظيم، بل لنَعود إلى قِيَم ومَبادئ ذلك الإصْلاح العظيم. فإنَّ أحداث الكون تتغيَّر، لكن مَبادئ الكون لا تتغيَّر بل تتبلوَر وتتطوَّر. فالأحْداث محدودة بالزَّمان والمكان. أمَّا المبدأ الذي يتجسَّد في حَدَثٍٍ، فإنَّه يعيش ويدوم، ويُصْبح الحَدَث والمَبْدأ شيءٌ واحدٌ. فالإصلاح حدثٌ جسَّد مبادئ وقيم، ثَوْرةُ حَقٍّ على الانْحرافات الكنسية آنذاك، ثَوْرةٌ لصَالح كلمة الله وحَقِّه، ثَوْرةٌ لصَالح الإصْلاح والتَّطوُّر، ثَوْرةٌ ضِدَّ الانْغلاق الفِكْري، والتَّمييز الرّوحي، ضِدَّ ظُلْم وطُغيان رجال الدِّين واسْتغلالهم بسَاطة شُعوبهم. لذلك، سَوْف تَظلّ ذِكْرى الإصْلاح صَرْخة ثائرة، تُحَفِّز وتُشَجِّع وتُعلِّم، وتَفْتَح أفُقًا جديدة، في فَهْم كلمة الله، وفي علاقة الإنْسان بالله، وفي علاقَة الإنْسان بمُجْتمعه وبعَمله.
سَوْف نتوقَّف في حلقات مُتَتالية عِنْد أهمّ أحْداثِ وأفْكارِ الإصلاح. مع التأكيد على أنَّنا لا نَحْتفل بشَخْص "مارتن لوثر"، لا بميلاده ولا بانتقاله ولا بحياته، بل نحتفل بمَصْدر البَرَكة الحقيقي، ونُعْطي المجد والكرامة لشَخْص المسيح وحده. فنحن لا نُقدِّس الأشْخاص، أيَّا مَن كانوا، ولا نَنْسِب إلَيْه الكمال وكلّ البطولة، لأنَّه كبقيَّة القديسين يَرْفض أنْ يُنسَب له تلك الصِّفات، ولا نُقَدِّم عبادة خاصَّة لأمثال أولئك القديسين. لكنَّنا نتأمَّل جهادَهم وفِكرَهم وأعمالَهم، لنتَمثَّل بإيْمانهم، وفي الوقت نَفْسه، نتجنَّب ما وقعوا فيه من أخْطاء فِكْريَّة أو سلوكيَّة، لأنَّهم لَمْ يكونوا معصومين. لذلك، فإنَّنا لا نَهْدف إلى الإساءة إلى أيَّة كنيسة، فإنَّنا الأكْثَر حِرصًا على تحويل الصِّراع إلى مُصالَحة. وفي الوقت نَفْسه، لا نستطيع مُجامَلة أو مُسايَرة أيَّ فِكْرٍ نرى أنهَّ يُخالف بوضوح تعليم كلمة الله، وفي الوقت نَفْسه نَسْعى دائمًا للتَّناغُم والانْسجام والاحْترام بَيْننا وبَيْن مَن يخْتلف عنَّا أو حتّى مَعنا، لأنّ هذه هي عَقْليَّة الإصلاح.
ومِن المؤسِف كثيرًا أنَّ كثيرين من الإنْجيليين لا يَعْرفون شيئًا كافيًا عن حركة الإصلاح. فلو عَرَفْنا ما الذي عَمِله "مارتن لوثر" بالفِعْل، وأدْرَكنا الكثير من تلك الشُّرور التي أُنقِذْنا مِنْها، لأصْبَحنا مُتحَمِّسين وفَخورين بإيماننا الإنْجيلي المُصلَح، وصِرْنا غيورين للدِّفاع عن حَقِّ الإنجيل.. فمَن هو "مارتن لوثر"؟ هل كان مُحقًَّا في صِرَاعه ضِدَّ البابا، والامْبراطور، والأمَراء الكاثوليك؟ هل كان مُحِقًَّا في قيامه ومُناداته بالإصْلاح؟ هل كانَ الإصْلاح بَرَكةً للعالَم، أمْ نَقْمَة على العالَم؟ وهل كان البابا مُحقًَّا في حرمان "مارتن لوثر" ومُحارَبته؟ أسئلة كثيرة سَوْف نُحاول الوصول إلى إجابات مُخْتَصَرة ومَوضوعيَّة وصَحيحة عليها. ولنَبْدأ الرِّحلة بوَقْفة عند نَشْأة "مارتن لوثر" وبداية مَسِيْرة حياته التي عمِلَت على تغيير مَسار العالَم.
ميلاده
لا نعرف بالتَّحديد السَّنة التي وُلِد فيها "لوثر"، مع أنَّنا نَعْرف اليَوْم والسّاعة! هذا ما قالته أمّه "مارغريت"، من أنّها تعرف بالتَّحديد السَّاعة واليَوْم والشَّهْر، قُبَيْل مُنتَصَف الليل، في العاشِر من نُوفمبر/ تشرين الثّاني. لكنَّها لا تَتَذكَّر في أيَّة سَنة ولَدَتْه. وتَتراوح التَّخمينات بَيْن 1582-1585م. وُلِد "مارتن" مِن أبوَيْن فقيرَيْن ريفيَّيْن مُتواضعَيْن في ألمانيا الشَّرقية، الآن. وكلَّما كانت الحياة تَشْتدّ وتقسو على الأسْرة، كانت تَنْتقِل إلى قرية أو مدينة أخْرى، سَعْيًا وراء لُقْمَة العَيْش. فَمن كان يتوقَّع أنَّ طفلًا يولد في مِثْل تِلك الظّروف القاسية، يكون هو الرَّجُل الذي يُغيِّر، بحياتِه وتعاليمه، مَسار التّاريخ؟
عائلته
كانت الأسْرة كاثوليكيةً مُحافظةً، فعمَّدوه في اليوم الثاني لولادته، حيث كانَت الكنيسة آنذاك مُتَمسِّكة بفِكْرة الإسْراع في المعمودية. وقد سُمي ب "مارتن" لأنَّه وُلِد ليلة عيد القديس الفرنسي "مارتين". الذي عاش في القَرْن الرَّابع، ووُلِد أيضًا في أسْرة فقيرة، وكان أبوه يَعْمل في الجيش. ونَظرًا لظُروفهم الاقتصاديَّة الصَّعْبة، اضْطرّ "مارتين" للالتحاق بالجَيْش، ولَمْ يَكُن قد اعْتَمَد بعد. إلاَّ أنَّه عاش كراهب أكثر مِنْه كجُنديّ. ومِن أشْهَر أحداث حياته أنَّه رأى، في أحَد أيَّام الشّتاء القاسي، فقيرًا شِبْه عارٍ، لَمْ يُساعده أحَد. فأخذ "مارتين" سيْفه، وخَلَع رداءه، وقَسَمه إلى نِصْفَيْن، وأعْطى ذلك الفقير نِصْف الرِّداء. في تلك الليلة حَلُم بأنَّه يرى المسيح مُرتديًا نِصْف ذلك الرِّداء، فلمَّا استيقظ ذهب واعْتَمَد. ولما أمَرَه الامبراطور أنْ يستخدم سَيْفه في المعْركة، رَفَض وقال إنَّه مُسْتَعد أنْ يقف أعْزلًا في الصَّف الأوَّل أمام الأعداء، دون أن يُمْسك أو يُشْهِر سَيْفًا في وَجْه أحَد. فسُجِن على أثَر ذلك. وبعد خروجه من السِّجْن بدأت حياته تتَّجه نَحْو الحياة الرَّهبانيَّة، حتى صار أسقُفًا، ومات في نوفمبر/ تشرين الثاني 348م. لابُدّ أنَّ قصَّتَه، التي كانت مَعْروفة آنذاك، قد عَرَفها "مارتن لوثر"، الذي حمل ذلك الاسْم، ولابُدّ تأثَّر به، حتى صار هو أيضًا فيما بعد راهبًا مِثْله.
كان لوثر بَيْن سَبْعة أخوَة. ومع أنَّ أباه "يوحنا لوثر" لَمْ يدرس دراسات جامعيَّة عاليَة، إلاَّ أنَّه كان طَموحًا جدًا ومُجْتهدًا كثيرًا، لا يَخْشى أيَّ تَعَبٍ، ولا يَهاب أيَّة صُعوبات، فاسْتطاع أنْ يَصل إلى مراكز مَرْموقة. أمَّا أمَّهُ "مارغريت" فقد كانت سيّدة تَقيَّة ومُجْتَهدة ونَشِيْطة جدًا. ومع أنَّها كانت سيِّدة نموذجيَّة، إلاَّ أنَّها كانت تتأثَّر كثيرًا بالخُرافات التي كانت مُنْتَشِرة في ذلك العصر. وقد كتب "لوثر" عن أبوَيْه: "كان والدايّ فَقيرَيْن جدًا. كانت والدَتي تَحْمل الأخْشاب على ظَهْرها لإعالَتِنا، إذْ كانَت الحياة قاسيةً جدًا. أمَّا أبي فَقَد خَلَقَ عَرَقَهُ مِنّي ما أنا عَلَيْه الآن".
ومِن بَيْن العادات والمفاهيم التي كانَت مُنْتَشرة وقتئذ، وكانت تُسَيْطِر على أبَوَيِ "مارتن"، ذلك المفْهوم الخاطئ في تَرْبية الأولاد، باسْتِعْمال الشِّدَّة في تهذيبهم. هذا الأسْلوب لا يَدلّ على تَجَرُّد الآباء والمُربِّين مِن العَطْف والمحبَّة. فيقول "لوثر" عن تلك العقوبات التَّأديبيَّة التي ذاقَها: "لقد عاقَبَني أبي عِقابًا شديدًا في يومٍ ما، لدَرَجة أنِّي هََرَبتُ من أمامه واخْتَفَيْت، ولَمْ أستَطِع أنْ آنَس إلَيْه إلاَّ بعد وقتٍ طويل.. وفي يوم من الأيام ضَرَبَتْني أمّي بالسِّياط حتى انْفَجَر الدّم من جِسْمي". ورُغْم التَّأديبات والعقوبات القاسيَة التي آلَمَت "لوثر" كثيرًا، فأنَّه كان يُدْرك أنَّ الهَدَف مِنْها هو تَهْذيبه وتَعْليمه، وأنَّها كانت كلّها لخَيْره. إلاَّ أنَّ تلك التَّأديبات والعقوبات قد أثَّرت كثيرًا في شَخْصِيَّته، ودفَعَته إلى الانْطواء. فكتب: "كان والديّ في غايَة القَسْوة معي، الأمْر الذي خَلَق منّي إنْسانًا خَجُولًا. وكانت قَسْوَتهما أحَد العوامل التي دفَعَتني إلى الالْتجاء إلى الدّير، لأصْبِحَ راهبًا".
مدرسته
كان "يوحنا لوثر" يُقَدِّر العِلْم تقديرًا كبيرًا، وعندما لاحَظ في ابْنه "مارتن" موهبة الذَّكاء والعَبْقَريَّة، أراد أنْ يُعلِّمه تعليمًا مُتَميِّزًا، وكان في السّابعة من عمره. وعلى الجانِب الآخَر كان أبوه يُريد أنْ يرى ابْنَه عارفًا بالأمور الرُّوحيَّة بدَرَجة كبيرة، فكان يَرْكع إلى جوار سَرير ابْنه ويُصَلي لأجله، ليعيش حياته للرَّب، ويَسْتَخْدمه الرَّب لأجْل ملكوتِه. فالْتَحَق "مارتن" بالمدرسة، التي كانت أيْضًا تَسْتَعْمل أسْلوب القَسْوة والصَّرامة في التَّعليم. فنَقْرأ أنَّه جُلِد عِدَّة مرَّات مُتتالية في يوم واحد في تلك المدرسة. لكنَّه تَعلَّم فيها قواعد اللغة اللاتينيَّة، التي كانت لُغَة العُلماء آنذاك.
ولأنَّ أباه كان طموحًا لمستقبل ابْنه، فقَد أخرَجه من تلك المدرسة، وأرْسَله إلى مدرسة للفرنسيسكان، فدَخل "مارتن" إلى عالَم جديد. تأثَّر كثيرًا بالرُّهبان الفرنسيسكان وبحياة الرَّهبَنة والتَّقشُّف. وبدَأت مواهبه تتفتَّق وتَظْهَر عندما وجد مُعاملة حَسَنة، خاصَّة تلك التي نالها مِن شَخْصَيْن هيَّأتهما له نِعْمَة الله، زوجَيْن تقيَّين "لونتز وآرسولا" الَّلذَيْن أخذاه إلى بيتهما، وقدَّما له كلّ مُسَاعدة، وعوَّضاه عن الكثير ممَّا آلمه من المعاملات القاسية من والدَيْه، الأمْر الذي أثَّر كثيرًا في شَخْصيَّته، وفي فَتْح قَلْبه لله. فتَعلَّم عَزْف الموسيقى، ونَجَح وتَفوَّق في دراسَته على رِفَاقه. بالإضَافة إلى "جون تريبونيوس" مدير المدرسة، الذي كان له أيضًا دور كبير في صياغَة شَخْصيَّة لوثر الجديدة. إذْ كان يُعلِّم تلاميذه قيَم الاحْترام الشَّخصي والجُرْأة الأدبيَّة، وبذلك عوَّضه عن الكثير ممَّا آلَمَه مِن المُعاملات القاسِية في المدرسَة السَّابقة. وكان يَرْفع قبَّعَته لتلاميذه عندما يَدْخُل إلى الصَّفّ، قائلًا: "مِن بَيْن هؤلاء الأولاد مَن سيُصبح وزيرًا أو رئيسًا أو طبيبًا أو قاضيًا". كلّ هذه الأحداث كانت تُحضِّر المسرح لما هو أعْظَم في حياة لوثر، إذْ بَدَأ التَّفْكير أكْثَر في التَّبْرير والمَصِيْر بَعْد المَوْت.
التغيير
عندما بلَغ الثَّامنة عشرة من عُمْره، كان لوثر قد تَذوَّق حلاوة العِلْم، فرَغب أنْ يلتحق بالجامعة، فوافقه أباه وشَجَّعه على ذلك، وكان يَرْغَب أنْ يرى ابْنَه مُحاميًا كبيرًا. فبَدأ "مارتن" دراسة الحُقوق، وهناك اكْتَشَف أعْظم اكْتِشاف غيَّر مَجْرى حياته. لقد اكتشف الكتاب المقدَّس، الذي لَمْ يكُن يعرف مِنْه إلاَّ بَعْض الفصول التي تُقْرأ في الكنيسَة أيَّام الآحاد مِن الأناجيل والرَّسائل فقط. فما أنْ قَرَأ قصَّة الطِّفل صموئيل وأمَّه حَنَّة، حتَّى صلَّى: "أعْطني يا ربُّ كتابًا كهذا، ليكون مُلْكًا لي". كان ذلك الحدث أول وأهمّ أحداث حياته التي عَمِلَت على تغيير اتِّجاهِه. بالإضافة إلى حَدَثٍ آخَر أثَّر في تغيير حياته، فبَيْنما كان مريضًا بمَرضٍ شَدِيد بسَبَب كَثْرَة الدّروس، ماتَ صديقه "ألكساس" موتًا فُجائيًا. فبَدأ لوثر يتَساءل عن مَصِيْره لَوْ حدث له ما حَدَث لصديقه، وبدأ يُفَكِّر في الأمور الأبديَّة شَيْئًا فشَيْئًا.
وهكذا عاش لوثر طفولَته في خَوْف وقَلَق، وتحْتَ قَسْوةٍ وصَرامةٍ مِنْ والدَيْه ومن المدرَسة. وعاشَ شبابه في رُعْب من انْتِشار وَبَأ الطَّاعون، فكان يرى الموت قَرِيْبًا مِنْه دائمًا. وبسَبب التَّعاليم التي تلقَّاها، لَمْ تكُن في ذهْنه إلاَّ صورتَيْن: صورة الله القاضي المُخيف المُرْعِب، وصورة الموت الذي يُطَارده من حينٍ إلى آخَر. ومع ذلك، لَمْ يَيْأس مِن الحياة، ولَم يُصَب بأيَّة أمْراض نفْسيَّة، بل أنْهى دراسَته الثانوية والجامعيَّة بتَفوُّق، حتى كان تَرْتيبه الثَّاني بَيْن 17 طالبًا. وكانت الجامعة قد طلَبَت منه أنْ يقوم بتدريس الحُقوق وهو ما يَزال طالبًا. وهَكذا انْفَتَحَت أبوابُ المجْد والعَظَمة أمام ذلك الشَّاب، وتَحقَّق حُلْم أبيه في أنْ يراه مُحاميًا مَرْموقًا.
ولَمْ تَمْضِ إلاَّ بضْعة أسابيع حتى حَدث في أحَد أيام الشّتاء، أنْ سَقَطَت بالقُرْب منه صاعقة شديدة ألقَته طريحًا على الأرْض، وكان قريبًا جدًَّا من الموت. فصَرَخ من دون أيّ تفكير للقديسة حَنَّة، طالبًا مِنْها الخلاص والإنْقاذ، واعِدًا بأنَّه سيَعِيش راهبًا فيْما بَعْد. فعادَ بذَاكرته إلى الماضي، وتَذَكَّر الكثير من المواقف التي تعرَّضت فيها حياته للمَوْت، لكنَّه كان ينجو. لقد وصَل إلى درجة علميَّة رفيعة، وأصدقاءه يُشيرون إلَيْه بالاحْترام والمحبَّة، وقد أصْبَح فَخْر والدَيْه. لكنَّه كان يَبْحَث عن شيء آخَر.. كيف ينال رضى الله؟ وكيف يضْمَن الحياة الأبديَّة؟ فمَاذا ينتَفِع لَوْ ربح العالَم كلّه وخَسِرَ نفْسه؟ فظنَّ أنَّ أفْضَل طريقة للوصول إلى رضى الله هي أن يَهْجُر العالَم ويلتجئ إلى الدَّير. فنَذَر حياته للرَّبّ، ودخل دير القديس أوغسطينوس، وكان عُمره 27 سنة، ليَبْدأ مرحلة أخْرى جديدة في حياته.
وفي ليلة 17/7/1505 بعد حادِثَة العاصِفَة بأسبوعَيْن، دعا جماعةً مِن أصدقائه وزُملائه في الدِّراسة والتَّدريس لقَضاء سَهْرة مُمْتعة معًا. وأكلوا وشَربوا ورنَّموا وضَحكوا، وتبادلوا الأخْبار السَّارة وغَيْر السَّارة. وفي نهاية السَّهْرة وقف "مارتن" ليُلقي كلمةً. توقَّعوا أنْ يُعْلن لهم خَبَرًا سارًا. وعندما بدأ خطابه قال لهم بلُغَةٍ اخْتَلط فيها المزْح بالجَدِّ: "الآن أنْتُم ترونَني، وغدًا لَن ترونني، لهذا فقَد دعوتكم لأودِّعكم". فنظروا إليه بدَهْشة، وظنَّ بعْضهم أنَّه يمْزَح، والآخَرون لَمْ يفهموا ماذا قَصَد بذلك... عندئذ قام بتوزيع بعْض أمْتِعَته القليلة مِن ملابس وأشياء أخْرى، عندئذٍ فهموا أنَّه قَصَد ذلك بالفِعْل. وفي اليوم التَّالي كَتَب رسالة لوالدَيْه يُعْلِمَهم بخَبَر دخوله الدّير. وفي اليَوْم نفْسه قدَّم استِقالته من الجامعة. وانْطَلَق إلى دير أوغسطينوس للناسكين، ليَنْزوي هناك باحِثًا عن الطَّريق التي يستطيع بها أنْ يُرْضي الله، ويَحْصل بأعْماله الحَسَنة وإماتاته الجَسديَّة على البِرّ. فهَل اسْتطاع ذلك؟ وهل هَدَأ ضَمِيْرَه؟ هذا ما سنَعْرفه في الحلقة القادمة من حكاية فِكْر.