الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

جائزة مان بوكر بين "مخاوف الأمركة ومأزق المتخوفين"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقدر ما يشكل فوز الأمريكيين بجائزة مان بوكر للعام الثاني على التوالي مجدا للأدب الأمريكي المعاصر، بقدر مايثير قلقا ومخاوف في أوساط أدبية بريطانية مما يوصف "بأمركة الجائزة التي تعد الأهم للأدب المكتوب بالإنجليزية" غير أن ثمة مأزق يواجه هذه "الأوساط والأصوات القلقة والمتخوفة من أمركة الجائزة" !.
فبفوز جورج ساندرز مؤخرا بجائزة مان بوكر لعام 2017 عن روايته "لينكولن في باردو" يكون ثاني أديب أمريكي يقتنص هذه الجائزة الأدبية الهامة للعام الثاني على التوالي بعد أن نالها في العام الماضي الأمريكي بول بيتي.
ومن عام 2014 أضحى الطريق لهذه الجائزة ممهدا أمام الأمريكيين بعد تغيير قواعدها وخروجها عن "نطاق بريطانيا ودول الكمنولث" بما يسمح بمنحها لأي أديب يكتب أصلا بالإنجليزية وتنشر إبداعاته بهذه اللغة في المملكة المتحدة.
وحسب ما أعلنته مؤسسة جائزة بوكر في هذا السياق المتعلق بتغيير قواعد منح جائزة المان بوكر فإن المؤسسة بذلك "تعانق اللغة الإنجليزية وهي تتدفق عفية بحرية مفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها أينما كان"، معتبرة أنها بتلك التعديلات قد "أسقطت قيود الجغرافيا والحدود".
ونظرة على الروايات الست التي وصلت هذا العام للقائمة القصيرة لجائزة مان بوكر تكشف فورا عن حضور أدبي أمريكي كثيف بلغ نصف مجموع عدد المرشحين للتتويج بالجائزة المفتوحة أصلا أمام عدد كبير من المنتمين لجنسيات مختلفة، وهو حضور تسبب في تأجيج القلق والمخاوف بشأن مايسمى "بأمركة الجائزة الأدبية الكبرى".
فإلى جانب رواية "لينكولن في باردو" للأمريكي جورج ساندرز ضمت القائمة القصيرة لمان بوكر رواية "3421" للأمريكي بول اوستر و"تاريخ الذئاب" للأمريكية اميلي فريدلوند مقابل عملين لكاتبتين من بريطانيا هما رواية "الخريف" للكاتبة البريطانية الي سميث ورواية "المت" للبريطانية فيونا موزلي، فضلا عن رواية "الخروج غربا" للكاتب الباكستاني الأصل محسن حميد.
غير أن من ينتقد هذا "الغزو الثقافي الأمريكي لجائزة مان بوكر" قد يجد نفسه في موقف لايحسد عليه لأن الرواية المتوجة بالجائزة هذا العام هي بالفعل عمل أدبي رفيع المستوى ونالت إعجاب وإشادة العديد من النقاد متفقين بذلك مع تقييم لجنة التحكيم ونظرتها لرواية "لينكولن في باردو" باعتبارها عملا مبدعا تماما ومؤثرا للغاية.
ولعل الأمريكي جورج ساندرز رد ضمنا على هؤلاء الذين يعتريهم الخوف أو يثيروا مخاوف الآخرين بشأن مايوصف "بأمركة جائزة مان بوكر" عندما قال، في كلمته بالعاصمة البريطانية لندن بعد الإعلان عن فوزه بالجائزة،"إننا نسمع في الولايات المتحدة الآن كثيرا عن الحاجة لحماية الثقافة..حسنا هذه الليلة هي الثقافة.أنها ثقافة عالمية وثقافة تتسم بالرأفة".
والقيمة المادية لجائزة المان بوكر لاتزيد على 50 ألف جنيه استرليني، لكن القيمة المعنوية لهذه الجائزة كبيرة ومهمة للغاية بما ماتنطوي عليه من شهرة لصاحبها ومبيعات عالية لروايته الفائزة بل أنها تكون أحيانا "الباب الملكي نحو أم الجوائز الأدبية العالمية" آلا وهي جائزة نوبل. 
وأشادت جوستين جوردان المحررة الأدبية المرموقة في جريدة الجارديان البريطانية بهذا "الكاتب الأمريكي ونزعته التجريبية الجريئة في روايته المتوجة بجائزة مان بوكر"، مؤكدة على أنها رواية جديرة بأهم جائزة للأدب المكتوب بالإنجليزية هذا العام وأن سلمت بأن فوز ثاني كاتب أمريكي بالجائزة وللعام الثاني على التوالي "سيمنح فرصة لجوقة الندابين الذين يتباكون ويتصايحون حول الهيمنة الأمريكية على جائزة مان بوكر". 
ورواية "لينكولن في باردو" الفائزة بجائزة مان بوكر هذا العام تتناول فقد أحد أشهر الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة وهو الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن لابنه الصغير "ويلي" الذي دفنه في مقبرة واشنطن وتدور أحداثها المحورية عام 1862 أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية وتمزج مابين التاريخ والإبداع الأدبي.
ويتصدى جورج ساندرز بحس أدبي عال لصياغة شخصية إبراهام لينكولن بعد فاجعة فقد ابنه الصغير ومواراته الثرى فيما استخدم تقنيات الحوار والمناجاة والمونولوج الداخلي وتكتيكات السيناريو والاسترجاع لاستعادة سيرة كل من الابن الراحل والأب المكلوم. 
وإذا كان الكاتب الأمريكي بول بيتي قد توج في العام الماضي بأهم جائزة أدبية للإبداع المكتوب بالإنجليزية وهي جائزة "مان بوكر" بروايته "الخيانة" التي تتجلى فيها قدرة "التوليد الصادم للصور عبر مضمون إبداعي يجمع مابين السرد والطرح والشعر فإن مواطنه جورج ساندرز البالغ من العمر 58 عاما والمتوج بالجائزة هذا العام والذي يرى"أننا نعيش في عالم غريب" جاءت روايته حافلة بالتآملات الشجية في رحلة المسير والمصير الإنساني وهي رحلة قصيرة للإنسان في الحياة الدنيا ناهيك عن الموت المبكر والذي يأتي قبل الآوان لأطفال مثل ابن ابراهام لينكولن.
واعتبر ساندرز بعد فوزه بجائزة مان بوكر أن السؤال الرئيسى في عالم اليوم يتعلق بطبيعة استجابة المجتمع للأحداث والوقائع المخيفة وما إذا كانت هذه الاستجابة تتسم بالعنف والإقصاء أم أنها تتحلى بالحب، فيما سعى في روايته المتوجة بالجائزة لتقديم الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن الذي ولد عام 1809 وقضى عام 1865 "كرجل يتطهر وهو يكابد رحيل ابنه الطفل الذي لايزيد عمره على 11 عاما".
وفيما وصف بول بيتي المتوج بجائزة العام الماضي بأنه "مبدع لايشبه إلا نفسه"وإبداعه يشحن شيئا ما في القاريء" فإن لجنة التحكيم لجائزة مان بوكر هذا العام والتي ترأستها الكاتبة وعضوة مجلس اللوردات لولا يونج وصفت رواية "لينكولن ان ذا باردو" لجورج ساندرز بأنها "عمل أصيل يحرك المشاعر بعمق".
وواقع الحال أن جورج ساندرز الذي ولد في تكساس ويعيش في نيويورك عرف في "الغرب الثقافي وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا" ككاتب قصة قصيرة على مدى عقدين وهو صاحب 6 مجموعات قصصية، غير أنه لم يكتب روايات طويلة قبل هذه الرواية التي راودته على مدى 20 عاما قبل أن يبدأ في كتابتها لتتناول حياة الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة بعد فاجعة فقد ابنه الصغير ولتصفها رئيسة لجنة التحكيم لجائزة مان بوكر بأنها "قطعة أدبية مصقولة بصورة فريدة".
ورأت جوستين جوردان المحررة الأدبية في جريدة الجارديان أن رواية جورج ساندرز "جاءت فاتنة وطريفة ومحركة للمشاعر بعمق مثل قصصه القصيرة وأن أتاحت الرواية بنسيجها الثري وبحكم طبيعتها التي تتجاوز بكثير حجم القصة القصيرة حيزا أكبر يمارس فيه المؤلف نزعة التجريب في الشكل وتطوير المضمون والشخصيات وتعميق رحلة البحث عن الهوية". 
وبدأ أسلوب جورج ساندرز ككاتب للقصة القصيرة واضحا في روايته "لينكولن في باردو" وأن جمعت الرواية مابين اللغة الموحية واللغة التقريرية، كما جمعت ما بين مشاهد تنتمي للتراجيديا وأخرى ساخرة وتنتمي للكوميديا.
ولئن سلمت لجنة التحكيم لجائزة مان بوكر بأن الرواية المتوجة هذا العام بالجائزة لاتخلو من صعوبات تجابه القاريء وخاصة في المستهل والبدايات فإن كلمة "باردو" الواردة في عنوان الرواية مستمدة في الواقع من المصطلحات والطقوس البوذية لرهبان التبت وتعني "مثوى الأرواح في البرزخ الواقع مابين الحياة والموت".
وفي العام الماضي اعتبر الأمريكي بول بيتي أن عمله الأدبي الفائز بالجائزة الكبرى للأدب المكتوب بالإنجليزية يصعب تصنيفه في خانة بعينها ليشير بذلك لحقيقة باتت واضحة لكل ذي عينين في المشهد الأدبي العالمي آلا وهي أن مسألة التصنيفات الصارمة قد ولى زمانها بعد أن تداخلت الأنواع وتشابكت ما بين نثر وشعر وغناء وأصوات متعددة.
أما في هذا العام فقد رأى أعضاء لجنة تحكيم جائزة مان بوكر ومعهم العديد من النقاد في الصحافة الثقافية الغربية أن الصعوبات التي قد تجابه قاريء رواية الأمريكي جورج ساندرز "الذي بدا وكأنه يتحدى من يبدأ في قراءة الرواية أن يستكملها" هي جزء من "تفرد لينكولن في باردو".
وبعد الإعلان عن فوزه بجائزة مان بوكر توجه جورج ساندرز الذي عرف العمل بالصحافة بالحديث لأعضاء لجنة التحكيم والحضور في احتفالية تتويجه بالجائزة قائلا "إنها غرفة مليئة بمن يؤمنون بالغموض والجمال من خلال الكلمة ويحاولون أن يروا وجهة نظر الشخص الآخر حتى حينما يكون ذلك أمرا صعبا".
وتحدثت رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر البارونة لولا يونج عن "شكل الرواية الذي يضم أصوات الأرواح في المقبرة ليكشف عن سرد ذكي وعميق ومؤثر للغاية"، كما وردت إشارات حول "السيناريو السياسي في رواية لينكولن في باردو" وهي رواية بحكم زمنها مشحونة بأجواء الحرب الأهلية الأمريكية والقتلى والأشباح والأرواح الهائمة فيما تمزج مابين "المآساة الشخصية والمآساة العامة للمجتمع الأمريكي آنذاك".
وفي ملاحظة ذكية تقول جوستين جوردان إنه إذا كان المجتمع الأمريكي يعاني حاليا من انقسامات فإن الكاتب جورج ساندرز يعود في عمله الأدبي المتوج بجائزة مان بوكر للحظة مبكرة من لحظات الانقسام الأمريكي.
وأضافت، في جريدة الجارديان،"حول هذه المآساة الشخصية للرئيس إبراهام لينكولن الذي مات ابنه الصغير بمرض التيفوئيد وهي مآساة اقترنت باحتراب بين الأمريكيين شيد جورج ساندرز روايته الفاتنة والمفعمة بالفانتازيا والميتافيزيقا. 
ويبدو أن اختيار هذا الكاتب المؤمن "بأهمية التواصل الوجداني العميق بين البشر "ليكون ثاني أمريكي يفوز بجائزة مان بوكر للعام الثاني على التوالي يبرهن بالفعل على رؤية صائبة لمؤسسة جائزة بوكر عندما أعلنت قبل نحو 3 أعوام عن تغيير قواعد منح جائزة المان بوكر "لتتدفق اللغة الإنجليزية عفية بحرية ومفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها".
وفي المقابل يبدو أن من تحدثوا عن مخاطر "أمركة جائزة مان بوكر" لن يجدوا هذا العام على الأقل مايمكن أن ينالوا به من منح الجائزة لأمريكي حتى لو كانت الجائزة قد ذهبت للأمريكيين للعام الثاني على التوالي.. فأصالة الإبداع سترد بقوة على هؤلاء القلقين والمتخوفين من "الأمركة"..أنها الكلمة عندما تتوهج وتتحول إلى بريق يشمل العالم كله وتتحول إلى وردة في حديقة الإبداع الإنساني !.