الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

خريطة العرب الجديدة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعض المتحذلقين وأشباه المثقفين يطلون علينا عبر الفضائيات ليتجشأ أحدهم فى وجوهنا، ويقول بمنتهى الثقة: «أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة»، ولو أن هذا المتحذلق قد اطلع على صفحة واحدة من التاريخ الذى كتبه المتآمرون أنفسهم لأدرك أنها حقيقة واقعة، وأن هناك من يتربص بهذه الأمة ويريدها ذليلة وتابعة لإرادته، وقد بدا ذلك واضحا فى الحملات التى رفعت شعار الصليب كغطاء دينى لها، وهى فى الحقيقة حملات استعمارية، وإذا كان أحد الذين نصفهم بالنخبة يؤمن بأنه لا توجد مؤامرة فما رده على ما كتبه نائب الرئيس الأمريكى جون بايدن فى «واشنطن بوست» منذ عدة أشهر بأنه يرى أن الحل الأفضل للأزمة فى العراق هو إقامة إقليم فى الوسط للسنة وآخر فى الجنوب للشيعة وثالث فى الشمال للأكراد، وما رد السيد المثقف الجهبذ على تقسيم السودان إلى دولتين تحت رعاية دولية وبإصرار أمريكى أوروبي، وبماذا يرد ناكر المؤامرة على الخريطة التى نشرتها «النيويورك تايمز» للشرق الأوسط الجديد، وكيف قسموا خمس دول إلى ١٤ دولة جديدة لضمان السلام والاستقرار فى المنطقة، من بينها كردستان، التى أعلنت الشهر الماضى انفصالها عن العراق بعد استفتاء رفضه معظم الدول العربية؟ ولِمَ العجب من كل هذه الأحداث التى تعيدنا إلى ما وقع بالفعل فى عام ١٩١٦، حين جلس الدبلوماسى البريطانى مارك سايكس مع الفرنسى جورج بيكو، ليضعا خريطة للعالم العربى حال هزيمة الأتراك فى الحرب العالمية الأولى، وهذا ما كنا قد انتهينا إليه فى المقال السابق ـ وأثناء جلوسهما معًا ورسمهما للخريطة، توقفا كثيرا أمام أسماء الدول الجديدة، فقررا تأجيل اختيار أسماء هذه الدول إلى وقت لاحق، وقاما باستخدام أقلام ملونة لتمييز كل دولة عن الأخرى، وكتبا فى الاتفاق أن الدولة الزرقاء حدودها من كذا وإلى كذا والدولة الخضراء.. إلخ، وبينما هما يفعلان ذلك كان أتون الحرب العالمية الأولى يشتعل بقوة وملايين البشر يُقتلون، وكل المؤشرات تؤكد هزيمة الدولة العثمانية التى دخلت الحرب كحليفة لألمانيا، وكانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزى، وفى الوقت ذاته تابعة للسلطنة العثمانية؛ فاتخذ الإنجليز قرارًا بإعلان الحماية على مصر وإلغاء تبعيتها للأتراك وعزل عباس وتعيين حسين كامل، وبينما كان الشعب المصرى ينتظر قدوم الأتراك بجيش جرار لإعادة مصر إلى دولة الخلافة، فوجئنا بأن الباب العالى لم يحرك ساكنا ولم ينتفض خليفة المسلمين لنجدة مصر، بل انشغل بحربه فى أوروبا، فانكشف ضعفه وقلة إمكانيات جيشه، وظل اتفاق سايكس- بيكو سريًا حتى قامت الثورة الشيوعية فى روسيا ١٩١٧، ووجد الثوار هذه المعاهدة فى أحد المبانى التى اقتحموها فقاموا بنشرها، ووجدها المليونير الإنجليزى روتشيلد فرصة للضغط على حكومته لإقامة دولة لليهود فى فلسطين، فكان وعد بلفور الشهير فى نوفمبر ١٩١٧، وقد صدر هذا الوعد فى ظل دولة الخلافة التى يتباكى عليها البعض ويتطلع لعودتها، وفى ظل وجودها أيضا اتفق الإنجليز مع الشريف حسين على أن يكون خليفة للمسلمين بعد الانهيار المؤكد للأتراك، وكان الشريف حسين واليا على مكة حين راسله هنرى مكماهون المندوب السامى البريطانى فى مصر، وعرض عليه أن يكون خليفة للمسلمين شريطة أن يساند الإنجليز فى حربهم ضد الأتراك، وذلك بإشعال ثورات شعبية فى مختلف البلدان العربية ضد الأتراك، وبالفعل حدث ما سمى وقتها بـ«الربيع العربى»، معذرة أقصد «الثورة العربية» ـ والتى انطلقت من الحجاز ثم انتقلت إلى الشام فى أيام معدودة، منددة بالاستعمار العثمانى، وأعلنت بريطانيا اعترافها بالشريف حسين ملكا على الحجاز؛ فتحرك على رأس جيش كبير من القبائل العربية لتحرير البلاد من العثمانيين، ونجح هذا الجيش فى طرد الأتراك وإجبارهم على الانسحاب من مدن عربية عدة، وأثناء ذلك دعت فرنسا لعقد مؤتمر عاجل لدعم مسلحى القبائل العربية فى طلبهم المشروع لتحرير بلادهم من الاحتلال العثماني، واستنكر المؤتمر الأعمال الوحشية التى يقوم بها حاكم دمشق التابع لتركيا، والذى قرر محاربة الشريف حسين وإخماد الثورة، وظن الشريف حسين أن الأمر بات قريبا، وأنه قاب قوسين أو أدنى من أن تصدر بريطانيا قرارها بتعيينه خليفة للمسلمين، ولكنه فوجئ بالروس وقد فضحوا الاتفاق السرى المعروف بسايكس - بيكو؛ فأصيب بخيبة أمل، وفهم أخيرا أنه كان مجرد أداة فى يد الإنجليز، وأنهم استخدموه لمحاربة الأتراك لكنهم لن يجعلوه خليفة للمسلمين كما وعدوه، بل قرروا تفتيت هذه المساحة الشاسعة إلى دول عدة، وما أشبه الليلة بالبارحة، فهؤلاء الذين ذهبوا إلى البيت الأبيض وقدموا فروض الولاء والطاعة فى سبيل أن يظلوا فى حكم مصر على أن ينفذوا مخطط الشرق الأوسط الجديد، هم أحفاد الذين ذهبوا من قبل إلى الإنجليز واتفقوا معهم على إقامة خلافة جديدة مقابل تنفيذ مخططهم.