الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

محمود سعادة.. عالم مصري فك شفرة وقود الصواريخ

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت حرب أكتوبر وما زالت مسرحًا واسعا للعديد من البطولات التي لًا يعلم أحد عن بعضها شيئا، لعدم اهتمام من قام بها بالتصريح والإعلان عنها، أو لوفاته، أو لجهلنا نحن بهم، وإن كان بعض هذه البطولات يمكن اعتبارها معجزات، ولولاها وبعد فضل من الله لم يكن النصر المبين الذى حققته القوات المسلحة فى تلك الحرب التى تدرس حتى الآن فى الأكاديميات العسكرية على مستوى العالم، واللافت أن بعض تلك البطولات قام بها رجال مدنيون أثبتوا ولاءهم وحبهم للوطن، وتفانيهم فى خدمته، مسخرين قدراتهم وعلمهم لتحقيق ما يطلب منهم لدعم القوات المسلحة، وهو ما خلده بعض رجال القوات المسلحة أنفسهم، حيث احتفظوا للتاريخ بتلك الصفحات المضيئة التي تنير طريقنا وترسخ مبادئ الولاء والانتماء لدى الجميع.
السطور التالية تسرد قصة أحد الأبطال المدنيين، والتي وثقها اللواء أ.ح طيار محمد زكى عكاشة في كتابه "جند من السماء" عن أحد المهندسين المصريين، والذى أسهم بعمله فى دعم سلاح الجو المصري وحمايته، فقد سبقت حرب أكتوبر فترة غاية فى الصعوبة، حيث كان لبعض الدول عدة شروط تمس كرامة واستقلالية وسيادة مصر، مقابل إمدادها بقطع غيار للأسلحة ومعدات حربية ووقود للصواريخ، وبالطبع رفضت الحكومة المصرية هذه الشروط التي تمثل بعضها فى وجود قوات جوية وبحرية تتبع تلك الدول بشكل مستقل، أى يصبح هناك دولة داخل الدولة، كما لاحظت الأجهزة الأمنية قيام بعض الدول عن طريق عملائها بإشاعة روح الهزيمة والانكسار، ونشر فكرة عدم قدرة القوات المسلحة المصرية على تحقيق النصر على القوات الإسرائيلية، لدرجة أن تقديراتهم لخسائر الجيش المصري في الحرب كانت فوق المستوى المتوقع والمقبول عسكريا، وذلك بهدف كسر الروح المعنوية للمقاتلين المصريين.
كل ذلك دفع الحكومة المصرية آنذاك لاتخاذ بعض الخطوات التي أثارت غضب الدول المسئولة عن توريد قطع غيار الأسلحة والمعدات الحربية ووقود الصواريخ، ولتزداد الصورة قتامة، كان هناك تعنت شديد في إمداد القوات الجوية والدفاع الجوي بإطارات للطائرات ووقود للصواريخ "ارض جو" المضادة للطائرات، ما كان يعنى إضعاف سلاح الجو المصري مقابل تطور سلاح الجو الإسرائيلي المعروف بأنه الذراع الطولي لجيش الدفاع الإسرائيلي.
ورغم محاولة الطيارين المصريين بقدر الإمكان إطالة عمر إطارات طائراتهم بتطوير قدراتهم ومهاراتهم في الهبوط بالطائرة، لتقليل معدل تلف الإطارات، ووجود مخزون وقود داخل المخازن، إلا أن كل ذلك كان مسكنا مؤقتا للمشكلة، خاصة مع اقتراب انتهاء صلاحية وقود الصواريخ "أرض جو" دفاع جوى، ما يعنى عدم وجود حائط صواريخ للدفاع الجوي، أي ببساطة عدم وجود حرب من الأساس، وعليه تحركت أجهزة الدولة لكن سرا، في محاولة حل تلك المشكلة لكن معامل القوات المسلحة لم تتمكن من حلها، فاتجه التفكير إلى الاستعانة بالعلماء المصريين المدنيين، وفى سرية تامة عرضت المشكلة عليهم،، وكان منهم الدكتور المهندس محمود يوسف سعادة أستاذ بقسم التجارب نصف الصناعية بالمركز القومي للبحوث،فهو احد أبناء الجيل الأول بالمركز القومي للبحوث وعمل في البداية بقسم التجارب نصف الصناعية، وهى حلقة الوصل بين الصورة المعملية للبحث وصورته الصناعية في مراحله النهائية وشغل منصب نائبا لرئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي وعين رئيسا لمكتب براءات الاختراع في التسعينيات وحاز على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون وعمل أستاذا ً متفرغا بقسم التجارب نصف الصناعية بالمركز القومي للبحوث مرة أخرى بعد وصوله إلى سن الستين وحتى وفاته في ديسمبر 2011.
وفى لقائه مع الفريق محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوي، وعده بحل المشكلة فى المركز خلال عام، لكن الفريق فهمى أخبره بأهمية عامل الوقت، وضرورة الوصول لنتائج إيجابية خلال شهر واحد على الأكثر، فطلب منه الدكتور سعادة أن يرسل له بالمركز عينتين من وقود الصواريخ، إحداهما لوقود منتهى الصلاحية والأخرى لوقود صالح، وقام بتشكيل فريق للبحث من أربعة من معاونيه بعد أن شرح لهم أهمية البحث، ومع العمل المتواصل ليلا ونهارا فوجئ الفريق فهمى بعد خمسة أيام فقط بالدكتور محمود سعادة يبلغه أنه تمكن مع معاونيه من حل شفرة الوقود ومعرفة العناصر المكونة له، ونسبة كل عنصر بالتحديد.
وبعد ثلاثة أسابيع، نجح الدكتور سعادة فى إنتاج عينة أولية من الوقود، وأخذها إلى قيادة الدفاع الجوي، وقام الضباط في وجود قائد القوات بملء أحد الصواريخ بالوقود، وقاموا بتجربة إطلاق ناجحة للصاروخ، ما دفعهم لحمل الدكتور سعادة على أعناقهم من شدة الفرح.
ونجح الدكتور سعادة خلال شهر في استخلاص 240 لترا من الوقود الصالح من الوقود المنتهى الصلاحية الموجود بالمخازن، وكان لابد من استثمار هذا النجاح، فتم تكليف جهاز المخابرات العامة بإحضار عينة من ذلك الوقود من دولة أخرى ومقارنتها بالعينة المصنعة في مصر، وبعدها تم استيراد مكونات الوقود كمواد كيميائية أولية، وبالعمل المتواصل داخل المركز القومي للبحوث وبالتعاون مع القوات المسلحة تم إنتاج حوالى 45 طنا من وقود الصواريخ "أرض جو" دفاع جوى، وبهذا أصبح الدفاع الجوي المصري في كامل الاستعداد لتنفيذ دوره المخطط له في عملية الهجوم.
وبلا أدنى شك يعتبر نجاح دكتور محمود سعادة في تخليق الوقود المصري للصواريخ أحد أهم أسباب نجاح حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري فى تدمير 326 طائرة إسرائيلية فى حرب أكتوبر 1973، فلم تكن القوات المسلحة وحدها التي تقاتل أو تستعد لحرب أكتوبر المجيدة، وإنما كانت مصر بكل أبنائها وعلمائها وصناعها وزراعها على قلب رجل واحد.