الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النزعة النقدية.. عند فؤاد زكريا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في الحادي عشر من مارس عام ٢٠١٠ رحل المفكر المصري الكبير الدكتور فؤاد زكريا عن عالمنا، كان فؤاد زكريا قمة شامخة في ساحة الفلسفة العربية المعاصرة.
تميز بسمة أساسية؛ وهي أنك تشعر بعد أن تقرأ له بأن ثمة تغييرًا إلى الأفضل قد طرأ على عقلك ووجدانك. إنني أعتقد أن هذه هي سمة الكاتب المتميز والكتاب الجيد. 
كان قلم فؤاد زكريا أشبه بالمحراث الذي يشق الأذهان ويحفرها ويهيئها للزرع الجديد، كانت أفكاره أشبه بمطرقة تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.
وكان «النقد» هو جوهر فلسفته، وإذا كان العلم هو سبيل التقدم، فإن النقد هو سبيل التحضر والرقي، إن المجتمعات المتخلفة لا تعرف النقد، وبالتالي لا تمارسه، إنها لا تعرف سوى أحد أمرين: المدح أو الذم. النقد الذي دعا إليه فؤاد زكريا ومارسه طوال حياته هو أبعد ما يكون عن هذين الأمرين. 
إنه التحليل العقلي للأقوال والأفعال للكشف عن محاسنها ومثالبها، ميزاتها ونقائصها، وقد تناول تراثنا تناولًا نقديًا، فذهب إلى أن قيمة أي تراث علمي أو فكري تكمن في استمراره، وفي كونه جزءًا من تاريخ متصل؛ لأن الامتداد الزماني المتصل مصدر أساسي لقوة تأثير التراث، بل هو جزء لا يتجزأ من معناه الحقيقي.
لقد رأى أن ما يعتري حياتنا من مظاهر التخلف الفكري نابع أساسًا من تصورنا لعلاقة الماضي بالحاضر، فقد أشار إلى أن السمة التي تنفرد بها العلاقة بين الماضي والحاضر في الثقافة العربية، هي أن الماضي ماثل دائمًا أمام الحاضر، من خلال الحرص على استدعاء الماضي لطمس الحاضر ونفي المستقبل، وهذا يمثل نوعًا من التقدم إلى الوراء، وتكريسًا للتخلف. 
وأكّد أن الإحياء الحقيقي للتراث، إنما يكون عن طريق تجاوزه، واتخاذه سلمًا لمزيد من الصعود. 
كان فؤاد زكريا مقاتلًا جسورًا وفارسًا نبيلًا لا تلين له عريكة، كان نموذجًا للمفكر الملتزم، فهو لم يقف موقف المتفرج السلبي الذي يُؤْثر السلامة الشخصية أو المصلحة الذاتية على حساب ما يؤمن به من مبادئ، لقد خاض العديد من المعارك الفكرية مزودًا بمنهج علمي صارم، إذ وقف من ثورة ٢٣ يوليو موقفًا نقديًا في السبعينيات من القرن الماضي. 
وقد عرض هذا الموقف فى ثلاثة مقالات متتالية بمجلة روزاليوسف الأسبوعية مما أثار حفيظة الناصريين والماركسيين ضده، فتصدوا للرد عليه، فرد عليهم بعدة مقالات نقدية، وكانت معركة فكرية شهيرة ورائعة تم تسجيلها فى كتاب بعنوان: «عبدالناصر واليسار المصري».
كما هاجم الجماعات الدينية المتطرفة بضراوة فى العديد من كتاباته ١-الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة، ٢- الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، مما لم يؤد إلى مهاجمته فكريًا فحسب، بل الدعوة لإباحة دمه من فوق منابر العديد من المساجد أيضًا. 
أثرى فؤاد زكريا حياتنا الفكرية بمؤلفاته الغزيرة الداعية إلى نبذ الخرافات وسيادة التفكير العلمي في مجتمعاتنا. ومع ذلك فإن قدرًا لا يستهان به من الغبن وقع على هذا المفكر الكبير، وأكاد أجزم بأنه تعرض في حياته لمؤامرة هدفها تغييبه عن عقول الناس ووجدانهم؛ وإلا بماذا نفسر عدم الاحتفاء بمفكر بقامة فؤاد زكريا حتى اختطفه الموت؟ أين كانت مؤسساتنا الثقافية من هذا الرجل؟ هل كانت تنتظر حصوله على جائزة نوبل حتى تدرك كم كان شامخًا وعظيمًا؟!
إن الأمم العظيمة هي التي تعرف أقدار النابغين والنابهين من أبنائها، وإذا لم نكن قد انتبهنا إلى قيمة هذا الفيلسوف المصري الكبير أثناء حياته، فلا أقل من أن نحتفي به بعد رحيله على النحو الذي هو أهل له.