رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قيادة المرأة... رمزية التحول

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من المثير للغرابة أن الأوساط التى كانت تتهجم على السعودية فى منعها قيادة المرأة للسيارات هى نفسها التى تقلل اليوم من القرار الشجاع الذى أخذه الملك سلمان لتمكين المرأة من هذا الحق الذى لم تكن الموانع الشرعية هى التى تحول دونه، بل العائق هو الأعراف الاجتماعية فى بلد محافظ كانت الدولة هى دومًا قاطرة التحديث فيه.
فى الستينيات من القرن الماضى أقر الملك الراحل فيصل تعليم البنات الذى كان قرارًا شجاعًا أهل المرأة السعودية للاندماج فى الإدارة وسوق العمل بحيث اقتحمت كل قطاعات الوظيفة العمومية وأبرزت قدرات واسعة فى العمل الخاص.
لقد تسنى لى التعرف على عدد كبير من المثقفات السعوديات فى السنوات الأخيرة، لمست فيهن الإعداد العلمى الجيد والمتابعة الفكرية الرصينة والانفتاح القوى على العالم، وقد اعتبرت أن الوقت قد حان لتبوئهن المكانة المستحقة فى مركز السلطة والقرار، وهو ما تبدو بشائره فى الخطة الطموحة التى أقرتها الحكومة العام الماضى (خطة ٢٠٣٠).
ومن هنا يبدو قرار تمكين المرأة من حق قيادة السيارة أكثر من مجرد إجراء إدارى عادى، بل هو إيحاء رمزى بتغير نوعى فى التعامل مع ملفات اجتماعية حيوية تتقاطع مع حقوق المرأة ودورها فى عملية التنمية الوطنية.
وفى هذا المنظور، نشير مع الفيلسوف «رجيس دوبريه» مؤسس «علم المديولوجيا» إلى أن وسائط النقل والاتصال ليست مجرد أدوات تقنية محايدة، بل لها تأثير محدد وحاسم على طبيعة السياقات الثقافية والاجتماعية. وإذا كان العالم الفيزيائى الشهير «فرانسيس بيكون» قد قال فى بدايات العصور الحديثة: إن الإنسانية قد تغيرت جوهريًا من جراء ثلاثة اكتشافات كبرى هى: المطبعة والبارود والبوصلة، فإن السيارة لا تقل أهمية عن هذه الاكتشافات إلى حد أن الناقد الأدبى المعروف «رولان بارت» شبه السيارات بـ«الكاتدرائيات القوطية» من حيث السحر الأسطورى معتبرًا أن «عالم السيارات» هو الأفق الأسطورى للمجتمعات المعاصرة.
فالسيارة كرست مفهومًا جديدًا للزمان والمكان والحركة، فألغت مقاييس الفضاء التقليدى المغلق والجماعى وقواعد ومعايير الانتقال المضبوطة اجتماعيًا، ودشنت مفهوم الحركة الحرة والفضاء الفردى الحميمى والزمن المفتوح، ومن هنا الطابع الثورى لهذا الاكتشاف الخطير فى تاريخ البشرية. وهكذا يميز «رجيس دوبريه» بين السيارة الشخصية التى ترمز للقيم الليبرالية الحديثة فى معانى الرفاهية الشخصية والتنافسية والاختيار الفردى الحر، وقطار السكك الحديدية الذى يرمز للقيم الاجتماعية الديمقراطية فى معانى التسيير الجماعى والرقابة العمومية، ودراجة العجلتين التى ترمز لمعانى التحرر الفردى والشخصنة المتمردة.
ومع أن عموم البلدان العربية والإسلامية قد منحت المرأة حق قيادة السيارة منذ فترات طويلة إلا أن هذا الحق ظل مقيدًا بالضوابط الاجتماعية التقليدية باعتبار ارتباطه بحركية التحرر الفردى التى تسارعت فى السنوات الأخيرة على رغم موجة التطرف الدينى والأصولية المحافظة التى هى فى عمقها ردة فعل على تحول المجتمع تحت تأثير الأنماط الاستهلاكية الجديدة والثورة التقنية الاتصالية الراهنة التى غيرت جذريًا طبيعة علاقة الفرد بمحيطه العائلى والاجتماعى.
ومن هنا يمكن القول: إن قرار تمكين المرأة من حق قيادة السيارة يندرج فى سياق مواكبة وتأطير هذه التحولات الهائلة التى عرفها المجتمع السعودى فى الأعوام الأخيرة، باعتباره من أكثر المجتمعات العربية شبابية ونشاطًا وانفتاحًا على العالم، وقد أصبحت فيه المرأة تنافس الرجل فى كل مناحى الدراسة والعمل. إن هذا الإجراء يندرج إذن فى مسار الإصلاحات الاجتماعية المتواصلة فى السعودية، التى كان من أهمها تمثيل المرأة فى مجلس الشورى والمجالس البلدية منذ ٢٠١١، ومن هنا كانت قوة هذا القرار الرمزية والصدى الاستثنائى الذى خلفه فى الشارع السعودى.
أحد الفقهاء الموريتانيين البارزين سُئل فى مطلع السبعينيات عن جواز خروج المرأة للعمل، فأجاب بأن السؤال لم يعد مطروحًا لأن المرأة خرجت فعلًا، فالمطلوب من الدين ليس حمل الناس على الجمود وإنما مواكبة تحولاتهم وتأطيرها بالتوجيه المطلوب وبروح تسامح الإسلام ومرونته، وذلك ما كررته إحدى المثقفات السعوديات فى تعليقها على القرار الأخير رافضة خط أولئك المتشددين الذين يخيرون المرأة بين الدين والحياة فى الوقت الذى تحرص هى فيه على اختيارهما معًا.
نقلا عن الاتحاد الإماراتى