الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ياقات مقلوبة.. ونصف نعل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جلست مع رجل عظيم صاحب مركز مرموق وكبير السن، وبدأنا نتحاور فيما يدور معنا وحولنا كأمة عربية ينهش الإرهاب فى عظامها، وتعبث الفتن فى مصيرها.. بداية الحوار كان متبادلا حتى استطاع أن يؤسر أذنى وجعلنى أصمت أمامه، وتلتهم عقلى كلماته ويختزنها، وذلك عندما تحدث عن نشأته.. قال أتعجب من أجيالكم وما أوصلتم المجتمع إليه من شغف بالماديات والرفاهية المبتذلة، فلا تعرفون قيمة للمال أو الوقت، فأنا أرى أبنائى وأحفادى وهم يهدرون أعمارهم فى توافه الأمور على شبكات التواصل الملعونة، ويلهثون وراء الماركات العالمية فى كل شىء، لم أر فى يد أحدهم كتابا ولو مصادفة، وأتذكر نفسى فى طفولتى وشبابى.. فأنا ابن أحد موظفى الحكومة رزق بثمانية أبناء خمسة أولاد وثلاث بنات، وأمى سيدة فاضلة ومثقفة، عكفت على تربيتنا بإخلاص وتفان، ورغم صعوبة الحياة لم نشعر يومًا بالاحتياج، أو كان لنا تطلعات تفوق قدرة الأسرة.. فقد تعودنا أن نطلب الضروريات دون إحساس بحرمان، وكانت أمى تقوم بحياكة الملابس لها ولشقيقاتى، وكن فى غاية الأناقة والرقى.. وكانت تحيك لنا ولأبينا «البيجامات» وتغزل البلوفرات الصوف حتى توفر فى الميزانية، وكنا نشعر بالسعادة والفخر أننا نرتدى ملابس صنعتها أمى.. وكان والدى المتمتع بالأناقة يكلفها بقلب ياقات القمصان عندما تنحل خيوطها ويزحف عليها الذوبان.. كانت ملابسنا محدودة ولكنها دائما نظيفة وأنيقة.. تعلمنا منذ الصغر أن نخلع جواربنا ونغسلها أثناء الوضوء بعد العودة من المدرسة.. وباغتنى بسؤال: هل تعرفين ما معنى «نص نعل»؟!.. أجبته بالقطع فردة حذاء!!.. فضحك بصوت عال وقال: أجبتى كما توقعت، سأعرفك ما معناها.. كان فى زماننا جميع الأحذية صناعة مصرية خالصة مصنوعة من الجلود الطبيعية حتى النعل، ومع كثرة الاستخدام كان النعل يتآكل من منتصفه، فيحمل والدى الأحذية إلى خبير التصليح، ويقوم بعمل نص نعل جديد وتلميع الأحذية بالورنيش لتعود كالجديدة، وقتها كانت الأحذية والحقائب الجلدية تصدران لكل دول العالم، ويتهافت عليها الجميع لأناقتها وجودتها.. كنا مع دخول الدراسة لا نهتم بشراء الحقائب والملابس الجديدة، بل تقوم الأسرة بعمل حصر لما لديها من ملابس وحقائب، وغالبا تكون الاحتياجات الجديدة من نصيب الكبار، وخاصة فى مراحل النمو فتقصر الملابس أو تضيق.. ولم نشعر بضيق أو خجل من ذلك لأن أغلب زملائنا كانوا مثلنا، ظروف الأسر كانت متشابهة، لأن المرتبات متقاربة.. فكان الحى مليئًا بالضباط والمستشارين والأطباء والصحفيين ولم يكن أحد منهم يمتلك سيارة، بل الجميع يستخدم المواصلات العامة.. ولا أعرف لماذا كانت نفوسنا ممتلئة بالكرامة والكبرياء، رغم منازلنا الصغيرة وأثاثها البسيط!!.. ونشعر بالانتماء إلى الحى والمدرسة محراب العلم حتى الشوارع والطرقات.. ونوقر المعلمين وكبار السن ونعتبر الجيران أهلا لنا نتشارك فى السراء والضراء بكل أريحية.. نتقاسم الأطعمة فى المواسم ونحملها كاملة هدية فى الأحزان.. هل تعلمين أننا لم نعرف طريقا للنوادى بل كانت الساحات الشعبية تحتضن أبناء الأحياء فيحدث التقارب والانسجام ويصبح الكل فى واحد.. وهذا ما خلق النخوة والشهامة، فلم يكن أحد منا يسمح بالاقتراب من بنات الحى.. كنا نمارس الرياضة، وأيضا الألعاب التى تنمى القدرة العقلية كالشطرنج، وكنا نذهب إلى المكتبة العامة الملاصقة لمركز الشباب ونستعير الكتب ونتبادلها.. لذلك كنا نتنفس ثقافة.. وهو ما أحدث نقلة حقيقية فى المجتمع، فلم ننكسر إلا بعد نكسة ٦٧.. ورغم انتصار أكتوبر الذى أعاد الكرامة ظل التأثير السلبى فى النفوس!!.. وبعد الانفتاح الذى كان بداية لتغيير السلوك المجتمعى ليصبح أكثر شراهة وتطلع إلى التفاهات.. ولكن ما نعيشه الآن، ونراكم فيه كأجيال جاء دورها فى تحمل المسئولية.. أرى أحوالكم «لا تسر عدو ولا حبيب»!!.. تجيدون إهدار الوقت والصحة والمال!!.. فكيف نستطيع أن نحملكم الأمانة؟!.. كنا نتباهى ببراعة الحرفيين والصناع، ونجيد التصليح والترميم لكل الأجهزة.. الآن وجود حرفى (سباك أو نجار أو كهربائى) يحتاج عناءً فى البحث!!.. إننى أتعجب من تهافت الشباب على عضوية أكثر من ناد وحمل أكثر من موبايل، والمطالبة بالحصول على سيارة بمجرد بلوغ سن استخراج رخصة القيادة!!.. فمن أين يكتسبون الخبرات الحياتية؟!.. ويا ليت بجانب ذلك نرى عملا حقيقيا أو ثقافة ووعيا!!.. بل سادت الطبقية والتباهى المذموم!!.. وصارت المدارس الدولية الملجأ والملاذ!!.. رغم صعوبة ذلك على أولياء الأمور، إلا أنهم يتحملون ما لا يطيقون، آملين بناء مستقبل مضمون لأبنائهم، ولا يدركون أنهم يعلمونهم البلادة والأنانية وحب الذات!!.. والمخزى أنه رغم المصروفات الرهيبة على التعليم لم نسمع عن أمثال عظماء مصر وعلمائها الذين تعلموا فى المدارس الحكومية ومن أبناء بسطاء.. ورغم ذلك أعلم أن هناك شبابا واعدا، ولكنهم أيضا تحت مقصلة إهدار الوقت والمال والصحة.. خرجت من هذا اللقاء بحالة تأمل والعديد من الأسئلة الحائرة.. هل من سبقونا كانوا أكثر منا إيمانا ووطنية؟!.. لماذا زادت الطموحات وقل العطاء؟!.. لماذا قل التكافل والتراحم بين الأهل والجيران؟!.. لماذا نتكلم أكثر مما نستمع ونطالب أكثر مما نعطى؟!.. لماذا نقبل تدنى الحوار والسوقية فى الأفعال؟!.. لماذا لا يشفق الأبناء على الآباء؟!.. ولماذا يلهث الآباء لتوفير الرفاهية وينسون بناء الأبناء على الرضا والقناعة؟!.. لماذا يسعون لبناء القصور ولا يعلمون أبناءهم حتى القشور؟!.. ومن كثرة استمتاعى بالحديث فاتنى أن ألومه على ما نحن فيه.. فهو وجيله صنيعة جيل آبائهم وأمهاتهم.. ونحن صنيعتهم فلا يلومون إلا أنفسهم!!.