الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

عندما يتحدث الكبار عن عبدالرحيم علي (٥).. من هنا نبدأ عبدالمنعم سعيد.. في البحث عن فولتير!

د. عبدالمنعم سعيد
د. عبدالمنعم سعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 ما قاله فولتير يومًا عن أنه على استعداد لكى يبذل حياته فداء لحق المخالفين له فى إبداء آرائهم، لا يبدو أنه سيكون عملة عربية فى القريب العاجل، رغم كل الحديث عن حرية الرأى والتعبير والديمقراطية والتسامح مع الآراء المعارضة، وما يبدو سائدا فى مصر والمجتمعات العربية الأخرى أن نعرة الحريات تزيد بشدة عندما تكون المخالفة من السلطة السياسية، فساعتها فإن معزوفة الاستبداد والديكتاتورية، يصير لها كثرة من المصفقين ولكن عندما تأتى المخالفة من جماعات سياسية ليست فى الحكم، فإن الصمت يذيع وتصبح الأصوات خافتة هامسة، لأن جماعة الرأى ليست متأكدة تماما عما إذا كان فى الأمر مخالفة لحقوق الإنسان والحريات العامة، أم أن الأمر قد يكون فيه التباس بين «المقاومة» والإرهاب؟.

القصة هذه المرة دارت حول الأستاذ عبدالرحيم على الصحفى المهتم بقضايا الإسلامى السياسى وتوابعه عن عقائد وأيديولوجيات وإرهاب وعنف وانتخابات أحيانا، حينما توجه له تهديد مباشر بالقتل من جماعة القاعدة فى العراق من خلال حث الجماعات الحليفة على التخلص من الرجل أو ضرب عنقه حسب التعبيرات الذائعة فى تلك الجماعات «الجهادية»، وجاء الحكم عقابا على ما ينشره صاحبنا فى صحف عدة فضلا عن تواجده الكثيف فى الفضائيات التليفزيونية العربية. لم يحمل الرجل سيفا وإنما حمل قلمًا ولم يلعن الرجل تنظيمًا، وإنما خلق مزيجًا حريفًا من التحقيق الصحفى والبحث العلمى، يغوص فى الحركات السياسية الإسلامية، ويحاول أن يبحث عن جذورها وأصولها منتميًا إلى تلك الجماعة من الناس الذين إذا أخطأوا كان لهم أجر، أما إذا أصابوا فلهم أجران.

وبالتأكيد فإن فى الموضوع نوعًا من الاختبار الأخلاقى والمعنوى لصاحب القلم، فليس من الأمور السهلة أن يعيش إنسان تحت رحمة تهديد بالقتل خاصة من جماعات لم يعرف عنها فضيلة المزاح، ويحافظ فى نفس الوقت على موضوعيته الفكرية، ومن الجائز بالطبع أن يحدث له ما حدث للمفكر الكبير سيد القمنى الذى عاش تجربة مشابهة رتبت عليه ضغوطًا عائلية ونفسية كبيرة خرج منها بشجاعة كبيرة، ولكن الاختبار كان للجماعة الصحفية والفكرية المصرية والعربية كلها من يسارها ليمينها. وللحق فقد كان هناك بعض من رد الفعل فى شكل بيانات من لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين، والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان وبعض من الأخبار والمقالات، ولكن كل ذلك لم يزد علي أنه نوع من إبراء الذمة، فلا وجدت حركة كفاية فى الموضوع ما يستحق موقفًا، ولا وجدت جماعة الإخوان المسلمين على كثرة بياناتها ما يستحق الاستهجان، وباستثناء لجنة الحريات فى حزب التجمع، فإن الجدية ظلت مستبعدة فى النظر إلى القضية التى هى من أهم قضايا الحريات العامة، وفى الحقيقة إن دفاع الجماعة الفكرية الراهن عن الصحفيين المحكوم عليهم بالسجن لن يستقيم ما لم يتحول إلى موقف عام من حرية الرأى، خاصة أن كتابات عبدالرحيم على لا يدخل فيها التباسات متعلقة بالسب أو القذف وإنما هى اجتهادات فكرية من الطراز الأول.

ومن المرجح أن تكون القضية ذات أبعاد أكثر اتساعًا بكثير من تهديد بالقتل من جماعة إرهابية لكاتب صحفى. فما يبدو أن المرحلة المقبلين عليها سوف تشهد أمورًا متعددة من هذه الناحية، فلا يمكن فهم تهديد جماعة القاعدة فى العراق إلا على ضوء موقعها الذى بات يتعرض لضغوط كثيرة. فخلال العام الحالى رغم الفشل العام للتجربة الأمريكية فى العراق فإنها نجحت - بالتعاون مع السعودية ودول الخليج الأخرى - فى جذب القبائل السنية التى بدأت هى نفسها تعانى من الضغوط العنيفة للجماعات «الجهادية» التى تركت الجهاد ضد الأمريكيين، ووجهته بصفة أساسية نحو العراقيين. وكان نتيجة ذلك انتشار مجالس الصحوة فى المحافظات السنية وتوجيه جهود قبائلها إلى طرد جماعة القاعدة وأمثالها. هذا التحول الذى دفع حتى أسامة بن لادن شخصيًا لنقد ممارسات القاعدة فى العراق، يتعمق حاليا ويهدد بقاء الجماعات الإرهابية المختلفة فى بلاد الرافدين، ومن ثم بفقدانهم قاعدة مهمة للحركة السياسية والعسكرية والتدريب والتسليح.

وجريًا على التجارب السابقة، فإن تشديد الخناق على جماعة القاعدة وأمثالها، كان دائما مدعاة لنقل الحركة «الجهادية» إلى مسارح أخرى حيث إن أهم مميزاتها من الناحية الاستراتيجية هى المرونة وخفة الحركة والقدرة على الانتقال من مسرح عمليات إلى آخر، ويبدو أن المسرح المختار القادم فى حالة الخروج من العراق، سوف يكون اختبار الأوضاع فى الدول العربية المختلفة، فضلًا بالطبع عن المعركة الكبرى التى تجرى الآن فى باكستان، وهذه على أى حال لها قصة أخرى، ولكن ما يعنينا هنا أن المثقفين والكتاب سوف يكونون من الأهداف الرئيسية للقاعدة، لأنهم من ناحية أهداف سهلة لأفراد عزل، وعلى الأغلب فإنهم بسبب آرائهم ليسوا ممن يحصلون على حماية مباشرة من السلطات الأمنية، ولكنهم من ناحية أخرى يحققون عائدًا إعلاميًا كبيرًا يلبى الحاجة إلى تحقيق أكبر عائد من الخوف والتوتر والانسحاب الفكرى ليس فقط على المفكرين وعائلاتهم بل أيضًا على الطبقة الفكرية كلها التى قد تنسحب خوفًا من القاعدة أو تقترب منها تملقًا ومداهنة.

وفى أثناء الموجة الإرهابية خلال التسعينيات، فإن محاولات الاعتداء على الأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ مكرم محمد أحمد واغتيال الدكتور فرج فودة، كانت كلها جزءًا من معركة كبرى للإرهاب الفكرى، فضلًا عما فيها من إرهاب مادى. وفى الحقيقة فقد كان الموقف الشجاع للجماعة الفكرية أيامها واحدًا من أهم أسباب نجاح مصر فى مقاومة الإرهاب عندما توحدت جهود الجميع من أجل محاربة الخوف والإرهاب والعنف، ومثل ذلك ينبغى أن يبدأ مبكرًا هذه المرة، فلا داعى لسقوط عدد من الكتاب والمفكرين حتى تستيقظ الجماعة الفكرية والسياسية، وأكثر من ذلك ينبغى أن يكون جزءًا من الأخلاق العامة والأسس التى يقوم عليها البناء الثقافى والفكرى والسياسى فى مصر، صحيح أن الجماعة الفكرية والسياسية فى مصر مثخنة بجراح كثيرة تتعلق بالحريات الفكرية والحريات العامة، إلا أن التهديد الموجه إلى الكاتب عبدالرحيم على يمثل لحظة أخرى لا ينبغى أن تفوت على أحد.

 نهضة مصر

الخميس ١/١١/٢٠٠٧

العدد ١٠٩٥ - صفحة ٢٠