الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فتاوى «ماركة مسجلة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أعرف السر الكامن وراء شهوة استدراج المجتمع لجدل عقيم، حول فتاوى لقيطة، مجهولة النسب. 
داهمتنى الدهشة أثناء مطالعتى فتوى غريبة، حول جواز معاشرة الزوج جثة زوجته بعد موتها، وما صاحبها من ضجيج، مضمونه يثير الغثيان، ليس من صحة وجود الفتوى فى المرويات التاريخية، إنما من انصراف الشيوخ عن الأمور الحياتية، وحصر اهتمامهم فى الهوس الجنسى، الذى صار «ماركة مسجلة» لفتاوى شيوخ هذا الزمن.
إن مثل هذه المسائل غير المألوفة، تثير الاشمئزاز، فبدلا من الحث على تقديس حرمة جسد الميت، راحوا يحضون على «شرعنة» الميول الشاذة، وبدلا من التأكيد على أن أواصر العلاقة الزوجية تنقطع بالموت، راحوا يستدعون من كتب التراث، مرويات تجيز ممارسات منفرة، لا تفعلها «البهائم» لأن غرائزها تمنعها من ارتكاب هذا الفعل. 
أنا لن أبحث عن أدلة لدحض الفتاوى الشاذة، كما أننى لست فقيها فى الأمور الدينية، ولا أزعم أننى عالم بقواعدها، وما أعرفه عن الدين وأؤمن به، هو كل ما يتسق مع المنطق ويتقبله عقلى، وأعتقد أن هذا هو شأن غالبية المسلمين على اتساع الكرة الأرضية، كما أننى أعلم بحكم قناعاتى التى شكلت عقيدتى الدينية، أن الأديان السماوية وليس الإسلام وحده، جميعها تمجد الإنسان وتسمو به فوق كل هذه الأفعال القبيحة، لكن ما بالنا وشيوخ «العار» فى هذا الزمن، تفرغوا لإثارة قضايا وضيعة، تحقر من شأن الإنسان، وتضعه فى منزلة مهينة، استنادا لـ«مرويات» تعود لأزمنة لا تتسق مع معطيات العصر والتطور الحضارى. 
فإذا كان إطلاق الفتاوى ضرورة، يجب أن تدور فى نطاق الأمور الحياتية والعلاقات الإنسانية، وأن تكون من متخصصين وداخل مجالس العلم، وليس من هواة الضجيج الفضائى، حتى نسدل الستار على مشاهد العهر، الذى صار وسيلة لإرباك المجتمع. 
وللخروج من تلك الحالة التى تقودنا إلى الأسوأ، يجب وفورا، تطوير الخطاب الدينى وتنقية الكتب التراثية من المرويات التى صارت مرجعية لمن يتعلقون بتلابيبها العبثية، من دون أن يدرك قائلوها أنهم يغوصون بحماقة فى مستنقع الجهل والتخلف.
ومن ثم فإن كل الفتاوى المنافية للقيم الإنسانية، تحتاج لمراجعة وتحتاج إلى رؤية نقدية عصرية، فالمجتمع، أى مجتمع، يتقبل الفتوى، عندما تكون مألوفة ومنسجمة مع غاياته، لكنها تصبح غربية وشاذة عندما تخالف العادات والأعراف. 
مثل هذه «المرويات» تظل مجرد آراء واجتهادات بشرية، كما هى آراؤنا، كما أنها لا تكتسب أى نوع من القداسة، مهما كان قائلها، لأن قائلها بشر لا يمثل الدين، بل يتعامل مع الدين، كما نتعامل معه نحن، وكما يتعامل معه كل الناس على اتساع الكون، وما نقوله جميعا، يمثل آراء واجتهادات، وإن استندت إلى أدلة تراثية، كما أن إدخال الدين فى الحوار الاجتماعى مسألة معقدة، وشديدة الحساسية، لكن هذا لا يمنع من أن يصبح الحوار أداة، يتعامل بها الجميع، ويتحاور بها الجميع بدون إخضاعها للقداسة وأن يقدم كاجتهاد بشرى بعيدا عن الحديث باسم الله، فأغلب الفتاوى سواء المتفق على صحتها، أو الغريبة المثيرة للجدل، هى مجرد ترديد لآراء دفنت منذ قرون، نعم، هى فتاوى موجودة فى كتب قديمة، يجترها بعض المحسوبين على فئة الفقهاء بدون التفكير فيها.
تكمن مشكلة الأجوبة التى يقدمها أصحاب الفتاوى، ليس فقط، فى كونها مستمدة من كتب مهترئة، و«مرويات» غريبة، لا تتسق مع واقعنا، إنما لعدم تناغمها مع قضايانا المعاصرة، لذا ستتحول تلك الفتاوى لسلعة بائرة، وشئنا أم أبينا، سينصرف عنها الناس، بحثا عن أى جديد فى مكان آخر، حتى لو تعلق الجديد بطريقة عرض براقة، بدون أن يلمس الجوهر.
ما يجب أن يعلمه القائمون على أمور الدين، أن الكفر بالأفكار الشاذة ليس كفرا بالدين، لأن الناس، يقينا، سيكفرون بالأشياء الميتة والخزعبلات، التى يراد لهم أن يعيشوا فيها دون أن يفهموها.
أمام هذه الحالة من جمود الفقهاء المعزولين عن العالم، والغافلين عن حقيقة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.. بات من الضرورى، تنقية النصوص التاريخية من الأفكار الشاذة والمرويات المثيرة للاشمئزاز، مثل جواز مضاجعة الزوجة الميتة، ووطء البهائم، وما شابه ذلك من الأمور البغيضة المهينة للإنسان، كما أصبح ملحا الآن البحث عن فتاوى جديدة تلائم التطور التاريخى للمجتمعات، يشارك فيها العقلاء من فقهاء الدين وعلماء التخصصات الأخرى لخلق حوار دينى وثقافى، ينتج فكرا مقنعا، قريبًا من الناس وبعيدًا عن التنفير.