السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

إيران تواجه "تآكل المكانة" داخل العراق.. "ملف"

د. محمد السعيد ادريس
د. محمد السعيد ادريس وآية الله محمود شهرودى وحيدر العبادي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التقارب الأمريكى العراقى يحرم طهران من الوصول للبحر المتوسط
استمرارا لسياسة التعاون بين جريدة «البوابة» والمركز العربي للبحوث والدراسات ننشر اليوم دراسة للدكتور محمد السعيد إدريس بعنوان «إيران تواجه تآكل المكانة داخل العراق»

تراقب إيران بحذر ودقة شديدتين، ما يحدث داخل العراق من تطورات تراها طهران شديدة الخطورة على المشروع السياسى للجمهورية الإسلامية، نظرًا لمحورية إيران ضمن هذا المشروع سواء من منظور الأمن أو من منظور المصالح.
فمنذ انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية عام ١٩٨٨، والتى امتدت لثمانى سنوات، وإيران حريصة على عدم تمكين العراق من امتلاك القدرة والإمكانيات مرة ثانية لشن حرب أخرى مماثلة على إيران، أو على الأقل أن يصبح العراق مصدرًا لتهديد الأمن الإيراني.
كما أن طموحات إيران فى مشروعها الإقليمى تجعل من العراق محور ارتكاز هذا المشروع. فالعراق هى الجوار المباشر بريًا لإيران، ومن العراق تستطيع إيران أن تتمدد بريًا إلى الغرب نحو سوريا ولبنان، ومنها تكون أقرب ما يكون إلى إسرائيل التى تراها عدوها الاستراتيجي، كما يمكن أن تتمدد نحو الجنوب إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية. وفى الاتجاهين ترى إيران بيئة مواتية يمكن أن تكون حاضنة لمشروعها الإقليمى فى بعده الطائفى الشيعي.
ففى العراق توجد أغلبية شيعية كبيرة ومميزة، وفى دول الخليج توجد أقليات شيعية قوية لها ثقلها السياسى والاقتصادى والثقافى، تجعل منها حاضنة ملائمة لحمل المشروع الإيراني. لذلك يعد العراق مرتكزًا مصلحيًا أساسيًا فى هذا المشروع يصعب التفريط فيه.
وإذا كانت الأحداث، فى مجملها، مواتية بالنسبة لإيران فى علاقتها مع العراق من هذا المنظور الأمنى والمصلحي، ابتداءً من حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن تحالف دولى كبير لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وهى الحرب التى دمرت الجزء الأكبر من القدرات الاستراتيجية العراقية، ووضعت العراق تحت طائلة حظر أمريكي - بريطانى شديد القسوة، وامتدادًا إلى الغزو والاحتلال الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣ الذى أنهى ما تبقى من قدرات استراتيجية عراقية وفكك وحدته وتماسكه الوطنى، ووضعه تحت طائلة نظام سياسى طائفى ومحاصصة سياسية طائفية مدمرة، حيث استطاعت إيران أن تكون هى الفائز الأكبر ضمن تداعيات وتوازنات القوى التى فرضتها هذه الأحداث وباتت قوة إقليمية مهيمنة فى العراق، بفعل العديد من الأدوات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، ناهيك عن القوى السياسية الشيعية الحاكمة فى بغداد والموالية لطهران، فإن العراق بات يشهد فى الأشهر الأخيرة تطورات شديدة الأهمية والخطورة على المستويين الأمنى والسياسى، أخذت تنال من مكانة إيران وتفوقها النسبى فى معادلة حكم العراق والسيطرة على قراره الوطني.

تآكل المكانة الإيرانية فى العراق
من أبرز التحديات التى أخذت تواجه إيران فى العراق، يأتى التوجه السياسى الأمريكى الجديد بتوجيهات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب باستعادة النفوذ الأمريكى فى العراق، فى مقدمة هذه التحديات.
فقد أتاحت الحرب التى تشنها الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادى ضد تنظيم «داعش»، الإرهابى وخاصة فى الموصل فرصة مواتية للولايات المتحدة لتحقيق هذا الطموح من خلال مشاركتها الفعَّالة فى هذه الحرب، حيث بدأت الولايات المتحدة فى بناء العديد من القواعد العسكرية الجديدة فى أنحاء متفرقة من شمال العراق، وعلى الأخص على طول الطريق من الموصل إلى الحدود مع سوريا، وبذلك يكون فى مقدورها إجهاض الحلم الإيرانى بإنشاء طريق برى يربط بينها وبين كل من سوريا ولبنان ويصلها بالبحر المتوسط عبر العراق، وهذا الحلم يعتبر من أهم ما كانت تعتبره طهران مكسبًا استراتيجيًا فى مقدورها تحقيقه ثمنًا لدورها فى القتال إلى جانب النظام السوري.
كما أن الولايات المتحدة، ومن خلال مشاركتها فى الحرب ضد «داعش» فى العراق جنبًا إلى جنب مع الجيش العراقي، وقيامها بالدور الأساسى فى التسليح والتدريب لهذا الجيش، ونقل الخبرات قد استطاعت تحقيق مكسبين مهمين ضد ما تعتبره إيران مصالح لها فى العراق، المكسب الأول، التأسيس لشراكة قتالية مع الجيش العراقى ضد عدو مشترك، ومن ثم الطموح إلى تأسيس تحالف عسكرى أمريكي - عراقى على حساب التفرد الإيرانى بالعراق.
أما المكسب الثانى فهو تقوية الجيش العراقى فى وجه التنظيمات والميليشيات الموالية لإيران التى تكون فى مجملها ما يُعرف بـ «الحشد الشعبي» الذى كانت إيران تراهن على تحويله إلى «حرس ثوري» عراقى نظير للحرس الثورى الإيراني، وأن تكون له الكلمة العليا فى الشئون الأمنية والدفاعية العراقية على حساب دور الجيش العراقي، الأمر الذى أخذ يؤثر بشكل سلبى ومتسارع على مكانة النفوذ الإيرانى فى العراق.
كانت إيران تراقب هذه التطورات جنبًا إلى جنب مع تطورات أخرى لا تقل خطورة وأهمية كانت تحدث على صعيد تحالفها مع القوى الشيعية الحاكمة والموالية لها فى بغداد ابتداءً من حيدر العبادى رئيس الحكومة ومقتدى الصدر زعيم التيار الصدرى وعمار الحكيم رئيس التحالف الوطنى الذى يضم القوى الشيعية الأساسية المشاركة فى حكم العراق، وامتدادًا إلى النتائج السياسية المحتملة للانتصارات ضد تنظيم «داعش» الإرهابى التى تصب فى اتجاه دعم مسار إجراء تحولات سياسية عميقة ضمن مشروع وطنى يكون قادرًا على استيعاب القوى السُنية تحسبًا لمطالب «تصفية حسابات» بعد تحرير المحافظات السُنية من «الدواعش»، وهى تحولات تقود نحو حتمية التخلص من نظام الحكم الطائفى الذى كرّس تهميشًا للسُنة وفرض شمولية «شيعية»، كانت من أهم أسباب نجاحات «داعش» فى التوسع فى مساحات واسعة بالمحافظات السُنية بالعراق. مثل هذه المطالب والتحولات، إن حدثت فإنها ستكون حتمًا ضد النفوذ الإيراني.

استفتاء كردستان
وزاد من قلق إيران إصرار قيادة إقليم كردستان العراق على إجراء استفتاء «حق تقرير المصير»، تمهيدًا للانفصال عن العراق يوم ٢٥ سبتمبر الجاري، الأمر الذى قد يمثل حافزًا قويًا لأكراد إيران، فى حال نجاحه، لإعلان مطالب مشابهة، الأمر الذى تعتبره طهران تهديدًا شديد الخطورة لوحدتها الوطنية واستقرارها.
لذلك حاولت إيران على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، احتواء ما اعتبرته تمردًا على نفوذها فى العراق، من جانب حلفائها التقليديين من زعماء الشيعة، خاصة عقب زيارة حيدر العبادى رئيس الحكومة العراقية للسعودية (١٩/٦/٢٠١٧) وبعدها زيارة مقتدى الصدر للمملكة (٢٣/٧/٢٠١٧) ثم زيارته للإمارات (١٤/٨/٢٠١٧)، إضافة إلى تصدع حزب المجلس الإسلامى الأعلى الذى يعد إحدي أهم أذرع النفوذ الإيرانى فى العراق باستقالة زعيمه عمار الحكيم، وتأسيسه لحزب جديد من جيل الشباب بمشروع سياسى يصطدم مباشرة بالمشروع الإيرانى يدعو إلى تأسيس منظومة علاقات متينة ورصينة مع محيط العراق العربى والإسلامى وفق مصلحة العراق أولًا والمصالح المشتركة مع هذه الدول، ويلتقى بذلك مع الشعار الذى كان مقتدى الصدر قد رفعه قبل أشهر وعنوانه «العراق أولًا».

فتنة البيت الشيعي
كانت إيران تعتقد أنه بمقدورها، وعبر أدواتها التقليدية، احتواء هذه التحولات المهمة، كما أنها أعطت كل تركيزها على التنسيق مع تركيا لوأد التمرد الكردستانى من خلال الزيارة المهمة التى قام بها رئيس الأركان الإيرانى محمد حسين باقرى لتركيا التقى خلالها بكبار المسئولين الأتراك وخاصة الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره التركى الجنرال خلوصى أكار للبحث فى ملفات شديدة الأهمية كان على رأسها الاستفتاء الذى يرجح إجراؤه فى كردستان العراق، لكنها فوجئت بأن التمرد على زعامتها فى العراق من جانب قيادات شيعية بارزة، أخذ يتحول إلى ما يمكن اعتباره «فتنة فى البيت الشيعي» على إثر الخطيئة التى ارتكبت من جانب حزب الله والجيش السورى، وتتمثل فى «النقل الآمن» لمقاتلى وعائلات تنظيم «داعش» الإرهابى بعد استسلامهم فى جرود عرسال على الحدود السورية - اللبنانية ونقلهم، حسب رغبتهم، إلى «إدلب» السورية برعاية حزب الله وتنفيذ من جانب الجيش السوري.

صفقة الترحيل
بدأ التمرد على لسان حيدر العبادى رئيس الحكومة العراقية بإعلان انتقاده لـ «حزب الله»، بسبب هذه الخطيئة، واعتبر أن «صفقة الترحيل» تهدد العراق، وامتد التمرد بعد ذلك ليضم معظم القوى العراقية المدنية إضافة إلى نشطاء موالين للسيد مقتدى الصدر والسيد «عمار الحكيم»، فى حين اتخذ نورى المالكى موقفًا داعمًا لـ «حزب الله» ولإيران، باعتبار أن خطوة ترحيل «حزب الله» لـ «الدواعش» ما كان يمكن أن تتم دون ضوء أخضر إيراني، الأمر الذى يعنى أن إيران باتت هى المتهمة فى أعين العراقيين المحسوبين على طهران تقليديًا باستثناء نورى المالكى فى «فتنة» غير مسبوقة بدأت تجتاح البيت الشيعي، وهذا ما أدى إلى الدفع بكل من محمود شهرودى رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام يرافقه الأمين العام للمجلس الجنرال محسن رضائى، بالتوجه إلى بغداد فى محاولة لنزع فتيل هذه الفتنة، وتجديد الحوار مع الزعماء الشيعة فى العراق مستثمرًا رصيده الإيجابى لدى هؤلاء الزعماء، لكنه صدم بأن هؤلاء القادة الذين استمعوا إلى نصائحه لم يعودوا مستعدين لتقبل الأوامر، بل إن لهم رؤيتهم الجديدة للعراق وللعلاقة مع طهران، ويطالبون بتخفيف الضغوط الإيرانية على الحكومة العراقية، كما يطالبون طهران بأن تنظر إلى الانفتاح الجديد فى العلاقات العراقية - الخليجية باعتبارها «خيارًا استراتيجيًا غير موجه ضدها»، ما يعنى أن الأزمة التى أخذت تهدد «البيت الشيعي» لم تعد تصلح معها الوساطات والنصائح حتى لو كانت من شخص بوزن شهرودي.

صدمة إيرانية
صدمة آية الله محمود شهرودى فى العراق كانت مضاعفة. فالواضح أنه فشل فى هذه المهمة التى بُعث من أجلها فى أول اختبار عملى لكفاءته فى منصبه الجديد كرئيس لمجمع تشخيص مصلحة النظام الذى تولاه خلفًا لرجل إيران القوى الراحل على أكبر هاشمى رفسنجاني.
كان هناك منافسون كُثر لشهرودى من أبرزهم على أكبر ناطق نورى رئيس مجلس الشورى الأسبق والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية عام ١٩٩٧ أمام الرئيس محمد خاتمى وزير الداخلية الأسبق من عام ١٩٨١ إلى عام ١٩٨٥، وأيضًا آية الله أحمد خاتمى عضو مجلس خبراء القيادة أحد أبرز خطباء جمعة طهران، وعلى أكبر ولاياتى كبير مستشارى المرشد الأعلى وزير الخارجية الأسبق، ومحسن رضائى الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام أحد أبرز قادة الحرس الثوري، والمرشح شبه الدائم فى انتخابات رئاسة الجمهورية.
كل هؤلاء كانوا مرشحين للمنصب الكبير، ولكن المرشد اختار محمود شهرودى لمكانته وخبرته الواسعة والناجحة وخلفيته الدينية المميزة والذى سبق له أن شغل منصب رئاسة السلطة القضائية، وشغل بعدها رئيس الهيئة العليا لحل الخلاف وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث فى إيران والتى شكلت بأمر المرشد الأعلى عام ٢٠١١، فضلًا عن كونه عضوًا بمجلس خبراء القيادة، ومجمع تشخيص مصلحة النظام.
وكان يفترض أن يوفق فى هذه المهمة خصوصًا أنه يعد الأكثر تمايزًا فى علاقاته بالعراق وزعامته، فهو لديه جنسية عراقية، وهو عراقى المولد فضلًا عن أنه من المؤسسين الأوائل لـ «حزب الدعوة» العراقى الذى يقوده حاليًا نورى المالكي، كما أنه تزعم فى بداية الثمانينيات «المجلس الإسلامى الأعلى» التابع لآل الحكيم وبالتحديد مؤسسة محمد باقر الحكيم وشقيقه عبدالعزيز والد السيد عمار الحكيم الذى أعلن مؤخرًا تمرده على هذا الحزب وتبعيته لإيران.
إذا كان المبعوث الإيرانى الذى أوفده المرشد الأعلى لعلاج الخطر الذى يواجه النفوذ الإيرانى فى العراق، وبالذات تحول ولاءات أبرز زعماء الشيعة بعيدًا عن طهران ومسعاهم نحو علاقات متوازنة للعراق بين إيران والدول العربية، خاصة فى الخليج قد فشل فى مهمته، فإن هذا يعنى أن فرص إيران فى العراق بدأت بالفعل تتآكل، وأنه لن يكون بمقدور شخص آخر بديل احتواء الأزمة التى ستؤثر حتمًا على مكانة شهرودى كقيادة إيرانية على رأس أهم مؤسسات الحكم فى إيران، نظرًا لأن فشله الشخصى أضحى فشلًا إيرانيًا عامًا.