الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نقد الأساس المعرفي للإسلام السياسي المعاصر "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أدركت الصحوة الإسلامية بحسها السياسى، أن موقع الفلسفة فى عالم اليوم ليس بذى بال وشأن، لذلك ركزت وراهنت على المعركة الحق، على معركة العلوم الإنسانية والاجتماعية وجعلت منها حصان طروادة، لأن موضوع الفلسفة هين، سبق أن تولى أمره بالنقد والتسفيه والتحريم فى تاريخ الإسلام علماء كـ«الغزالى» و«ابن تيمية» و«الشهرزورى»، فهناك تراث كامل مناهض للفلسفة، وما على«إسلامية المعرفة» إلا استعادته وبعثه ونشره من جديد.
أما العلوم الإنسانية فتطرح على إسلامية المعرفة مشكلة متعددة الوجوه، مشكلة من حيث إنها جديدة على تاريخ الفكر الإسلامى، ومشكلة من حيث إنها قادمة من الغرب، ومشكلة من حيث إن لها هذه الصبغة العلمية. من هنا فليس غريبا أن تركز إسلامية المعرفة على العلوم الإنسانية فى معركتها المعلنة ضد الغرب وضد التغريبيين فى المجتمعات الإسلامية هذا من الناحية الثقافية السياسية. 
أما من الناحية المعرفية والعلمية، فإن العلوم الإنسانية تواجه صعوبات معرفية وعلمية مقارنة بالعلوم الصحيحة، وهو ما يسمح لخطاب إسلامية المعرفة أن يؤسلم تلك العلوم، وإن كان يرغب فى أسلمة جميع العلوم والمعارف. ولكنه يعلم سلفا، أن معركته ضد العلوم الإنسانية فى المجتمعات الإسلامية أسهل وأبسط مقارنة بالعلوم الصحيحة، وبخاصة أن موقفها منها يشكل قاسما مشتركا مع جميع النظم الإسلامية من دون استثناء، وذلك على الرغم من الخلافات القائمة بينهما والتى تصل حد المواجهة، لكن قوى خطاب إسلامية المعرفة تعى تماما المشترك فى المعركة وتركز عليه مع التأكيد على التميز والاختلاف. وفى هذه النقطة فإن خطاب إسلامية المعرفة يعى المشترك بينه وبين النظم الحاكمة فى المجتمعات الإسلامية وموقفها من العلوم الإنسانية باعتبارها علوما، تقوم بدراسة تلك المجتمعات من منظور نقدى، وهو ما تعارضه السلطات والحركات الإسلامية على السواء. أما العلوم الطبيعية أو الدقيقة فلا يجرؤ أحد على معارضتها، لما تملكه من قوة وسلطة وفائدة، وبخاصة ما تعلق بتطبيقاتها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التى تعمل الدول الإسلامية، بدرجات مختلفة على امتلاك أسرارها.
وعموما، لقد عملت معظم البلدان الإسلامية على كسب العلوم الصحيحة ونقل مختلف التكنولوجيات، وتحفظت وعارضت، بدرجات متفاوتة، أى اهتمام بالعلوم الإنسانية، لذلك فإن هذه العلوم وعلى الرغم من حضورها الذى يزداد يوما بعد يوم، وذلك بالنظر لتزايد المشاكل الاجتماعية كالنمو الديموغرافى، وتعقد الحياة الإنسانية عند فئة الشباب والمرأة، وصعوبات التكيف والتأقلم بين الحاجات والرغبات ومنظومة القيم السائدة فى المجتمعات الإسلامية، وذلك بفعل التحديث المشوه، فإنها أى العلوم الإنسانية، لا تزال تعانى من وضعية التهميش فى مختلف منظومات التعليم المتبعة فى البلدان الإسلامية، ويكفى التدليل على ذلك، النظر فى الميزانيات المالية المخصصة لها. 
وفى هذا السياق، فإن منطق خطاب إسلامية المعرفة يقوم على قاعدة بسيطة، وهى أن العلوم الإنسانية، علوم غربية قائمة على المعطيات الثقافية الغربية، وعلى المعطى الدينى خصوصا، لذلك فهى ليست علوما، ولا تعكس الثقافة والدين الإسلامى. ولأن فى الإسلام، عقيدة وشريعة، ما يكفى لقيام علوم إنسانية إسلامية. من هنا وجب فى منظور إسلامية المعرفة قلب معطى العلوم الإنسانية فى صورتها الغربية، وذلك بإيجاد علم إنسانى إسلامى، له مبادئه المختلفة التى تقوم على القرآن والسنة والسلف من العلماء والمصلحين.
تقول أحد نصوص إسلامية المعرفة: «إن التأصيل الإسلامى للعلوم الاجتماعية يقتضى عرض قضايا ونظريات هذه العلوم على أصول الشريعة الإسلامية باعتبارها المعيار الذى تستمد هذه العلوم منه خصوصيتها ومنطلقاتها، على أساس أن الشريعة وضعت المبادئ العامة للعلاقات، كما أن التأصيل الإسلامى للعلوم الإنسانية والاجتماعية إنما هو جهد يبذل لخدمة اتجاه أخلاقى وهذا نقيض ما يهدف إليه علم الإنسان الغربى». 
من المعروف تاريخيا، أنه ومنذ عصر النهضة العربية والإسلامية، هناك هذا الفصل فيما يتعلق بالموقف من الحضارة الغربية بين الجانب المادى، أى العلوم الصحيحة والتقنيات، والذى تجب الاستفادة منه، والجانب الروحى، أى النظم والثقافة والقيم وكل ما يتصل بالعلوم الإنسانية والذى يجب رده ورفضه، لماذا؟ لأن العلوم الإنسانية تشكل خطرا على ما يعتبرونه هوية وخصوصية المجتمعات الإسلامية وثقافتها. ولكن الذى يسقطه خطاب إسلامية المعرفة من حسابه، هو كون العلوم الإنسانية لم تظهر وتتطور فى الغرب بعيدا أو خارجا عن العلوم الطبيعية وعن المجتمع وصناعته وحاجته إليها، وأن المجتمعات الإسلامية التى يحاول خطاب إسلامية المعرفة دراستها، لا تملك لا العلوم الدقيقة ولا العلوم الإنسانية، وأن بدايات التصنيع والدخول فى الحداثة الذى باشرته المجتمعات الإسلامية، يستلزم حضور العلوم الإنسانية تماما مثل حضور العلوم الطبيعية وذلك مهما كان شكلها وقوتها أو درجتها. 
ولكن هل فعلا العلوم الإنسانية هى الحلقة الضعيفة فى سلسلة المعرفة؟ نعم إنها الحلقة الضعيفة ولكن ليس فى الغرب وإنما فى المجتمعات الإسلامية، وذلك ليس بسبب ضعفها العلمى بل بسبب أن السلطات فى المجتمعات الإسلامية، وإن كانت فى حاجة إلى العلوم الصحيحة لبناء اقتصادياتها، فإنها تأكيدا لا تحتاج إلى العلوم الإنسانية أو لا تحتاجها إلا بشكل ثانوى، أو بالشكل الذى ترغب فيه. 
وعليه نقول إن ضرب العلوم الإنسانية باعتبارها الحلقة الضعيفة، ليس من باب البحث عن الأصالة أو التأكيد على الخصوصية والهوية كما يدعى خطاب إسلامية المعرفة، وإنما هو تحالف موضوعى على مستوى المعرفة مع السلطات القائمة. من هنا نرى أن إسلامية المعرفة من هذا الباب أو التحليل، تشكل عقبة فى كل تنمية لمعرفة ممكنة بالمجتمعات الإسلامية، وعقبة أمام البحث العلمى.