الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حاملات السر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم أكن واثقة الخطو ساعة بدأت البحث الميدانى فى جمع الحكايات الشعبية لواحة براك منطقة الدراسة (بجنوب ليبيا) ما سأُعنى به بحثا سوسيولوجيا فى دراستى العليا، كانت دراسة أكاديمية بكرًا فى جامعات ليبيا حول الحكاية الشعبية الليبية ممثلة بمنطقة بعينها، خطوى أول نزولى بالواحة (أكتوبر عام ١٩٩٩) لم أوفق فيه بالجمع والتسجيل، وكنتُ بعد أن طالعت بعض المراجع اعتمدت خريطة بجغرافيا الواحة التى تتوزع بين أربعة أحياء: براك القصر وهى القرية القديمة، براك العافية، براك المصلى، براك الزوية، فى ذاكرتى من والدى وأهلى الأقرباء بعض تفاصيل عن المكان تمركزت ببراك القديمة وبراك الزاوية، حيث سكن أبناء عمومتى وفروعهم، وعمتى التى لم تغادر واحتها إلى أن قاربت عقدها العاشر! من ستساعدنى لأجمع الحصيلة الأكبر من الحكايات لاحقا، لكن عناية الباحث بالمكان تاريخيًا وجغرافيًا وسكانًا، تتوسع وتحيط ما أمكن بكل ما له علاقة بالإجابة على فروضه وتساؤلاته، وذلك من لزوم ما يلزم، وكان على أن أحاول سعيًا فى ذلك، وعزمت على البدء بجدولة لعينات من البيوت بالأحياء الأربعة لمن تعيش بينهن سيدة مُسنة جدة ثم أمًا، فهن على الأغلب حاملات سر الحكاية.
كانت مفكرتى الرئيسية التى افتتحتها بتسجيل تاريخ أول زيارة استكشافية لى بالواحة، ما ملأتُها بالمواعيد والملاحظات المتعلقة بالدراسة، أما المفكرة الزرقاء فقد خصصتها لتفاصيل عمرت بها يوميات الجمع، قد يعتبرها البعض هامشية، وأن لا علاقة لها بما سأورده بالبحث، ولكنى رغم ذلك وثقتها، من ذلك بيوت دخلتها ولم أحصل منها على حكاية لبحثى، فتعرفت على أهلها وسمعت بعض سيرهم فى الحياة، مواقف حصلت لى حين غبتُ أو تأخرت أو أجلت تسجيل حكاية، حفظتُ بالمفكرة الظروف التى حالت دون ذلك، إعياء، إجهاد، مرض عارض أصابنى بزياراتى المتكررة لسنوات ثلاث، تواريخ لفقد الكهرباء بالحى الذى أقمت بها منعت ذهابى لموعد ضربته، دونتُ حتى عدد الساعات التى غابت فيها الكهرباء، تسرب فى المجارى بأهم شوارع الواحة أخذ أيامًا لإصلاحه، وعطل أيضا ذهابى لأسجل إذ أغلق الأهالى الشارع لعمليات الحفر وتركيب المواسير، المسلسلات التركية التى شغفت بها بعض راوياتى بعد الظهر، وكان علىّ أن أحضر بعدها، مواعيدهن إلى تنورهن المسائى، التزمت معهن فيها بالاستئذان أولًا، أأقف معهن عند التنور وأستجوبهن عن نص لحكاية أم ننتظر إتمام وضع خبزهن بأكمله مصفوفًا على جدار التنور؟! كانت الهوامش والتفاصيل كثيرة، مفكرتى الزرقاء التى احتفظتُ بها إلى يومنا هذا، حمالة أيضًا لفقد بعض ممن وثقت موقفًا معهن، فراويتى فاطمة حميدة رحمها الله ضيفتنى وجبة شعبية لذيذة من صنعها نسميها فى مدينتى طرابلس «رشدة بُرمة»، ونادتنى لقصعتها الساخنة الراحلة فاطمة قائلة هذا «المقطع» الحانط، مقَطَع كونها عجينا يجرى قطعه طوليا، ووضعه بمرق القديد رفقة بقوليات، وتشتهر الواحة بزراعة اللوبيا التى مُعتادة فى وجبة «مقطع» براك.
مبروكة الحبروش المريضة اليوم طريحة الفراش شفاها الله، لى حكاية معها حين منحتنى حكاية شعبية مُغناة «شبيشبان اللى طاح فى القدر ما بان»، إذ ونحن فى غمرة التسجيل وأحفادها حولنا دعتنى لشرب ماء بارد من جرتها فشكرتها واعتذرت فلم أكن عطشى، فبادرت سريعا لتلقم فم الجرة قرب فمها وتشرب، ثم علقت: يا بنتى فاطمة الجرة مضمونة وماؤها نظيف لا تخافك، فجاملتها وشربت من جرتها، وبعد دقائق وقد أكملت حكايتها، دعتنى لأنهض وأشارك عائلتها وجبة (ترديدة العشية) قلت لها: هيا فلننهض معًا، فصاحت فينا: حى على أنا صايمة وشرِبتْ الماء، لم أعرف ما علىّ فعله، أُسقط فى يدى، وأخذت فى الاعتذار لها خجلة من نفسي، ومن مفكرتى الزرقاء قد نعود لتفاصيل وحكايات أخرى مع حاملات السر.