الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عزت الطيري.. الشاعر الاستثناء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كانت غاية الشعر هي توصيل اللذة المباشرة. على حد تعبير كولردج، وإذا كانت اللذة هي الشيء الذي يجعل من الشعر شعرا، وإذا كان على الشاعر أن يتمتع بحساسية غير عادية تجعله يتعاطف بدرجة أكثر من المعتاد مع موضوعات الطبيعة ، وأحداث الحياة الإنسانية، وأن يعرض حقائق الطبيعة والعواطف الإنسانية عرضا حيا، وأن يصلح منها ويعدلها ويضيف إليها انفعال اللذة، بل أن يتجاوز ذلك كله بأن يوحد بين اللغة الطبيعية، وحالته هو الانفعالية ، وإذا توفر ذلك كله وأكثر منه مجموعا في إبداع شاعر ، فإنما هاهنا يكون الشعر ، وهاهنا يكون من يصبح استثناء من بين مجايليه من الشعراء.
وأن تقع على شاعر عبقري الصياغة لدرجة تدفعك دفعا إلى أن تعاود قراءة قصيده، بل إنك لتزداد شعورا بالالتذاذ الروحي النبيل مع تلك المعاودة ، فإنك واقف حتما أمام شاعر متجاوز ، وأعني بالتجاوز هنا أنه تجاوز حدود إبداع عصره، وتجاوز المتغيا من وراء ذلك الإبداع ، وتجاوز ما يمكن انتظاره من العكوف على قراءة القصيد العربي، بل إنه تجاوز تطلعاتك أنت فأدهشك بعبقريته الفريدة في فنية التقاط اللحظة المعبر عنها.
وأقول قاطعا: إن خير مثال لذلك الشاعر المتجاوز إبداع عصره ، إنما هو ذلك الشاعر الشاعر (عزت الطيري) ذلك العبقري القابع هناك في نجع قطية في صعيد مصر البعيد متربعا على قمة الإبداع الشعري العربي المعاصر في زيه الحديث الذي ارتضاه لنفسه ،ذلك الغائص وراء الجمان الحقيقي غير المزيف ، حامل راية عبقرية البساطة وبساطة العبقرية ، ذلك الملتقط ما لا يمكن رؤيته ، ولا يخطر على بال كائن من كان في عمق الخيال ، وفذاذة التصور، ذلك الشاعر الذي يختزل لك العالم من حولك في كلمات مومئة تعرف سبيلها إلى مخيلتك ، ولا تكاد تخطئ في أن تشده ذائقتك، فتحيلك متأملا يتبتل في محراب إبداع أصيل غير مصطنع ، إبداع رصدته عين واعية تملكتها موهبة فذة ، صعب أن يوجد لها قرين في عالمنا العربي ، رجل يعرف كيف يقودك إلى مهوى المتعة الفنية ،وإلى مسبح الفن الممتع .رجل لديه وفاء نادر لمفردات عالمه الشعري الخاص ، صور وظلال وأداء وإيحاءات ، رجل تعود ألا يطرق باب الإبداع باحثا عن مراماته،إنما تعود أن يطرق الإبداع نفسه باب مخيلته ليسوق عبره عطاءات شياطين الشعر العربي المعاصر مجموعة في شخصه ، وماثلة في سقط زند فضاءات عالمه الشعري ،رجل خفة ظله كظله لا تفارقه أينما حل وحيثما ارتحل ، رجل تعرف عين إبداعه بوصلتها تلك التي لا تقع إلا على المعنى الغفل واللحظة البكر ، والمنحى الذى لا يخطر على بال مبدع أو ناقد.
امرأة عمياء
تطل من النافذة 
على الرجل الأعمى 
وتسائل في وجع
تبا للرجل الساهر
هل لا يبصرني؟
والرجل الأعمى يصغي لدبيب العطر القادم
من نافذة ساهرة
ويتمتم بحنين
لامرأة العطر
وهب أنى لا أبصر روعتها
هل لا تبصرني؟
لك أن تقف على عبقرية البساطة في التقاط الصورة ، واستخدام اللغة وروعة التركيب ، وإلباس المتدارك ، الذي أنهكه الشعر الحديث ، زيا لغويا آخر ، زيا يختلف عما اعتيد عليه ، فضلا عن بكارة التجربة ، والقدرة العجيبة على اختزال الموقف، وإحالة المشهد إلى صورة متحركة نابضة ، بل أخذك إلى عالم خاص مبعثه القدرة على إحداث دهشة المفارقة بالتذييل بما لا تتوقع حدوثه شأن قوله:
بل دعني يا خمار الحانة أشرب كأسا خامسة
كي أدرك 
هل خمرك مسكرة 
أم مسكرة جدا؟
فالطيري لا ينساق في تعابيره وراء الشائع أو المتوقع
يدها ضوء
وعيون مهاها ضوء
والوجه المبتل
بأعطاف قرنفله ضوء
ومحطات الوجد الساكن 
في قمصان سنادسها ضوء
ولهذا
لم أرها
وأنا الليلي المتمرس!!
فأنى لليلي متمرس أن يدرك كل هذا النقاء؟ وأنى لمنتظر أن يجد من الطيري ما يمكن توقعه؟
الطيري شاعر يتجاوز التوقع، ولك أن تتأمل رائعته..آخر كلمات زليخة عزيز مصر:
قالت
لم آخذ من هذا الولد العذب
سوى
تقريع الزوج
وتقطيع الثوب
ولوم النسوة
في الدرب
وفضيحة قلبي
في كتب التاريخ
وآيات الرب
هذا لون من تقريع الذات لكن بالنكهة المصرية الخالصة ،إنه تأنيب من نوع خاص ، تأنيب امرأة معاصرة جدا ، لا يعرفها غير الطيري ذاته الذى يحلو لي أن أطلق عليه ،وهذا أمر لا يغضبه ( مجرم الشعر العربي) ولا أعني بالإجرام هنا المعنى المتداول بقدر ما أعني به احترافية الإبداع والقدرة على ابتزاز دهشة المتلقى ، شاء أم شاء أيضا، والولوج متلصصا إلى جوانياته عبر مساقات تعبيرية خاصة لا يقدر عليها سواه.
سقط الكلب
فانكسر الفك
انقلبت أحرفه
وتلعثم
صرخ طويلا
وه ـ وه
لي أن أتساءل هنا: كيف استطاع ذلك المبدع النفاذ إلى ما لا يستطاع تخيله ، بل كيف أحال الصورة إلى لوحة ممتعة حية نابضة؟إنها عبقرية التقاط اللحظة المعبر عنها في تكثيف فنى عجيب ، إنها لذة الاقتناص:
يجعل من رنة بسمتها
حين ترش صباحا
رنات للجوال المحمول
نحن ، إذن ، أمام شاعر يغسل خوفه بمياه الذل من الرحمة ،شاعر يمتلك القدرة على إحداث المفارقة الموجعة
طفل 
أفقر من نهر غاض
سيسرق وردا
من شاهد قبر
فخم
مشغول بالأرابيسك
ويلقيه على قبر
لأبيه
ويبكي
سامحني
لم تترك مالا
كي أبتاع سلال الورد
وأهديها لترابك
شاعر امتلك ناصية اللغة فصار يتلاعب بها كيف يشاء لا تلاعب صنعة زائفة ، وإنما تلاعب إمتاع فني من نوع خاص
هو البسيط السهل
مثل
(لامه)
هي النجوم في سمائها
(لهائها)
تلامسا
صارت (له).
وإذا كان ذلك الشاعر يعطيك دوما ما لا تنتظره، فإنه أيضا قادر على أن يجعلك تنظر ما لا يعطيه
في شاشة قبرص
بنت
في العشرين
من النرجس
في القسم التركي
وسمراء
محجبة
وتقدم للأزواج
حديثي العهد
نصائح
وتمارين
وطرقا
تصلح 
لجميع الأعمار
ولا تصلح للنشر هنا.
الطيري يتناوح بمشاعر متلقيه ، ويحملهم طائعين إلى دناه الخاصة ليسكنهم معه حالة خاصة .
البنت الأخجل
من ريعان النسمة
هرعت
للسوبر ماركت
وابتاعت أشياء
دستها
في أدغال حقيبتها
لا 
لست خبيثا
لأفكر في معجون الأسنان
وعلب الحلوى
إذ خرجت مسرعة
تسأل سيدة
عن أقرب شيء
لم أتبين اسمه.
الطيري، مبدع يستحق أن تسعى مؤسسات الثقافة أن تنال شرف تكريمه ، فمثله يُسعى إليه ، ومثله جدير بأن تتباهى به مصربأكملها،وقد جابت شهرته آفاق عالمنا العربي ، دون أن يريق ماء وجهه على باب مؤسسة إعلامية ، ودون أن يكون مرتكنا على مسئول كبير في وزارة ثقافتنا الغراء، ومثله ، هو ومن سلف لي أن تناولت شعرهم، جديرون بالفعل بدراسات أكاديمية أصيلة ، ينهض لها باحثون أكفياء، فليس أي باحث يصلح لدراسة شعر الأفذاذ من الشعراء، وشعر الطيري تحديدا يحتاج غير باحث كفيء ،على وزن فعيل، جاد ، متمكن ، وراءهم مشرفون أكاديميون حقيقيون يعرفون للعلم قدره،وللشعر مكانته ،ليلجوا إلى عالم إبداعه في شتى مناحيه ،آليات تكثيفه،بكارة صوره،بنيته اللغوية العجيبة ،إيقاعه المتجدد ،مفارقاته التصويرية المدهشة ، دراميته الرفيعة ،
باختصار شديد .. الطيري شاعر استثناء، وهو الوجه المشرف للشعر المصري الحر المعاصر، والطيري هو مجرم الشعر العربي المعاصر كما يحلو لي ولغيري أن نطلق عليه.