الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشارع.. لمن؟!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يكشف كتاب «خطاب الشارع.. تحولات الحياة والموت فى مصر»، الذى كتبه أستاذ الإعلام د. محمد شومان، الكثير مما نعرفه ونرفض أن نناقشه.
يقدم الكتاب الصادر ضمن سلسلة «كتاب اليوم» عن دار أخبار اليوم، قراءة شاملة لخطاب الشارع والناس فى مصر، بدءًا من مشكلة الزحام وانتهاء بتناقضات الشارع المروري.
يرسم المؤلف صورة مختلفة لحركة الناس وكرنفال السيارات - بأنواعها المختلفة والمتناقضة- فى شوارع القاهرة، مؤكدًا أنها تجسد خطابـًا بالغ التنوع والتفرد والتعقيد، يعكس حال المجتمع والناس فى مصر والعلاقات التى تربط بينهم من ناحية، وتربطهم بالسلطة من ناحية أخرى، فما بين الضجيج والفوضى، والتحايل على سلطة القانون والدولة، هناك خطابٌ متناقض ومتصارع إلى أقصى حد، يشارك فيه الجميع.
يرى د. شومان أن «فوضى الشارع وغياب سلطة الدولة وأنظمة المرور يفتح المجال أمام صراع إرادات بين السيارات المختلفة والمارة وأحيانــًا بعض مجندى الشرطة. كل هذه الصراعات يُفترض أن تؤدى إلى أزمة بل كارثة مرورية، وحوادث كثيرة وكبيرة، ومع ذلك لا يحدث شىء من ذلك، ويتكيف الجميع على الضجيج والتلوث والبطء فى التحرك بين أحياء المدينة بل وفى داخل الحى الواحد» (ص ١٣).
ويشير الباحث إلى ميل أغلب قائدى المركبات فى مصر على اختلاف أنواعها – بدءًا من «التوك توك» والدراجات النارية إلى حافلات النقل العام- إلى استخدام آلة التنبيه باعتبارها «لغة تخاطب» مع الآخرين، مثل طلب إفساح الطريق أو توجيه التحية لشخص والاحتفال بفوز فريق كرة قدم أو الإعلان عن الفرح بزفاف أو خطبة.
وإلى جانب آلة التنبيه، هناك من يسيء استخدام الراديو أو الكاسيت بطريقة تضيف مزيدًا من الضجيج إلى الشارع. يبدو الصوت المرتفع هنا كما لو أنه عادة لدى البعض، أو محاولة لإعلاء شأن صاحب الصوت الذى يستمع إليه كل سائق ويُفضله عن غيره، سواء كان مطربـًا أو مقرئـًا أو رجل دين، لكنه فى الوقت نفسه «يعتبر نوعـًا من ممارسة السلطة وإعلان الوجود، وفرض الذوق الخاص على الآخرين، خاصة عندما يتعلق الصوت المنبعث من هذه المركبة أو تلك بأغانٍ أو شعائر دينية» (ص ١٧).
كما يمكن النظر إلى رفعه صوت الراديو أو جهاز التسجيل باعتباره نوعـًا من التنفيس عن مكبوت أو إخفاق ما، أو الهروب من ضجيج أكبر إلى ضجيج خاص.
ويحلل د. شومان ظاهرة الكتابة والرموز على هياكل السيارات؛ إذ لا تكاد تخلو مركبة فى شوارع المحروسة من كتابات أو رموز ذات طابع اجتماعى أو ثقافى أو سياسى أو دينى أو مهنى، وكلٌ منها يحمل فيضـًا عجيبـًا من المعانى والدلالات متعددة الطبقات، فبعضها يحمل دلالات طبقية ومهنية فى آنٍ معـًا، وكلها تصنع هويات مشتركة أو تتلمس وجودها فى مدينة مليونية مثل القاهرة.
الأطباء يضعون علامات تميزهم، وكذلك الصحفيون ورجال القضاء وأعضاء البرلمان، والعاملون فى الشركات والمؤسسات المرموقة. الكل يضع علامته أو شارته التى تميزه عبر ملصقات صغيرة على زجاج السيارة الأمامى بشكل واضح وفى نوعٍ من التباهى الاجتماعي.
ولأننا صرنا «بلد ملصقات»، فإن النقابات وبعض الشركات والأندية والجامعات ترحب بذلك وتدعمه، فهو إعلانٌ مجانى متحرك عن وجودها ونشاطها من جهة، وتشديد على هوية فئوية أو مهنية من جهة أخرى.
هكذا تنشط فى مصر صناعة الملصقات والرموز وتوزيعها، وخصوصـًا فى مواسم الانتخابات، ويتجاور ملصق المهنة أو الطبقة مع الأيقونة الدينية، لتصبح هياكل السيارات - إلى جانب نوعها وسنة صنعها- طبقية ودينية بامتياز (ص ٢٠).
يستكمل د. شومان ما بدأه د. سيد عويس، أستاذ علم الاجتماع، من رصد وتحليل لظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر فى كتابه الفذ «هتاف الصامتين»، لكنه يشير إلى ظهور مفردات وتراكيب لغوية وشعارات جديدة، بعضها غريب وعدوانى تجاه الآخرين، فى مدينة تتوحش كأخطبوط كبير من الأسمنت يتحرك بلا عقل أو ضمير، ومن ثم تتضاعف تخوفات هؤلاء المهمشين ومشاعرهم بالضياع والعجز.
الخطير فى الأمر هو ذلك الحضور المراوغ للدولة والقانون؛ إذ إن كثيرًا من الشوارع بلا إشارات مرور، ومعظم تلك الإشارات لا تعمل فى أغلب التقاطعات، وحتى إن عملت فإنها بلا معنى أو دلالة أو حضور. هكذا تُدار حركة المركبات والمشاة فى التقاطعات والإشارات المهمة فى القاهرة بشكل يدوى وباستخدام إشارة اليد لشرطى المرور أو الصافرة أو الاثنتين معـًا. وبطبيعة الحال، تزداد الأمور مأساوية وصراعــًا، مع نفى المشاة وتجاهل كلا الطرفين (المشاة وقائدى المركبات) لقواعد عبور الشارع، خاصة مع احتلال الأرصفة وعدم صلاحيتها للسير فوقها وغياب الكبارى والأنفاق المخصصة للعبور.
خلاصة القول إن شوارع المحروسة تفتقر إلى المعنى والمعيارية، «ويسودها خطابُ سلطة مراوغ ومختل، لا تسيطر عليه أو تمارسه الدولة، بل تشاركها فيه سلطات عديدة متنافسة» (ص ٢٧)، فهناك أولًا: السلطة الأصلية، وهى سلطة الدولة كما تتجسد فى ضباط وجنود المرور، وهناك ثانيـًا: سلطة قادة المركبات، خاصة عندما تكون المركبة تابعة إلى جهة سيادية، وهناك ثالثـًا: سلطة سائقى الميكروباص والمينى باص وحافلات النقل العام التى يمارس بعضها أساليب الترهيب ضد باقى السيارات ورُكابها، وهناك رابعـًا: سلطة سائق سيارة الأجرة «التاكسى» التى تبدأ باختيار من تقوم بتوصيله حسب مظهره والوجهة التى يريدها، وبالتالى المردود المتوقع من «الزبون» (وإن تكن هذه السلطة الأخيرة قد تراجعت نسبيـًا مع ظهور أنواع جديدة من خدمات سيارات الأجرة التى تعتمد على شركات متخصصة).
وهناك خامسـًا: سلطة السائس الذى يفرض نفسه على رصيف أو شارع أو موقع مجاور لمطعم أو مركز تسوق تجارى أو متجر، وهذا السائس يعمل وفق أعراف ونظم غير مدونة، بعيدًا عن قبضة الدولة والقانون. وهناك سادسـًا: سلطة أصحاب المحال وبعض مُلاك العمارات وساكنيها، ممن تخلصوا من سلطة الدولة على الطريق العام الذى يمر بموازاة ملكيتهم الخاصة وقرروا ممارسة سلطة الاستحواذ على أماكن من الطريق العام والتعامل معها على أنها ملكية خاصة.
لك أن تتساءل بعد هذا كله، على طريقة يوسف شاهين: «الشارع.. لمن؟!».