الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من قتل الشافعي؟ "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عاش الإمام الشافعى فى عصر اضطربت فيه الأقوال وكثرت فيه النحل وتنازعت الجماعات والفرق برغم أنه كان قريب العهد بالنبى -صلى الله عليه وسلم- وبصحابته الكرام وبالتابعين، ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة، فالشافعى صاحب المذهب الرابع من مذاهب أهل السنة راح ضحية الإرهاب وقتل باسم الدين، أما قاتله ويدعى «فتيان» فقد ظن أنه يحسن صنعًا وأنه قد خلص الإسلام من مبتدع أدخل على الدين ما ليس فيه وتجرأ على الاختلاف مع أستاذه الإمام مالك، ولكى نفهم قصة الشافعى مع الإرهاب علينا أن نرجع إلى البداية وتحديدًا إلى سنة مائة وخمسين للهجرة حين ارتدت الطبيعة كساء الحزن لوفاة فارس الرأى الإمام الأعظم النعمان بن ثابت المكنى بأبى حنيفة، وعلى جناح الريح وصل الخبر إلى غزة حيث يقطن الرجل البسيط «إدريس» مع زوجته «فاطمة» المنتظرة المخاض، وقد وقع الخبر عليهما كالصاعقة، فأبو حنيفة هو الشيح الثائر فى وجه الظلم بعدما تغير كل شىء فى هذا الزمان، فقد انتهى عصر الزهد والزهاد وأصبحت ألسنة الناس التى كانت تردد كلمات سعيد بن جبير والحسن البصرى وعطاء بن أبى رباح تلوج الآن بعبارات الإلحاد واتهامات الكفر بين الفرق، فى هذه الأجواء بزغ نجم هذا العالم الذى هو أول الأئمة الأربعة وها هو ذا يرحل عن دنيانا ويصل الخبر إلى بيت إدريس بن العباس الشافعى الذى كان ينتظر قرة عين له ينسيه الحزن الذى أصابه منذ ساعات قليلة حين أتاه خبر رحيل النعمان والذى كان يعشق سيرته وكان يتمنى أن يخرج من صلبه من يسير على درب هذا الإمام الورع، وقبل أن تغرب شمس نفس اليوم أطلقت فاطمة صرخة مدوية هزت أركان البيت الصغير الذى تسكنه، فلقد جاءها المخاض، وها هو مولودها يملأ الدنيا بكاء وعويلًا وها هى ذى الفرحة على وجه أبيه وهو يحمله لأول مرة ويقبله معلنًا اسمه للجيران والأصدقاء ولمن جاء لتهنئته: إنه محمد.. نعم محمد بن إدريس الشافعي، وبعد أيام سافر إدريس إلى الشام بحثًا عن عمل وبقيت فاطمة وحدها ترضع مولودها، وذات يوم رأت فى منامها أن نجمًا خرج منها وأضاء مصر كلها ثم انبعثت منه شظايا أضاءت ليل سائر البلدان، فتأول المعبرون أنه سيكون لهذا الطفل شأن عظيم وسيخص علمه أهل مصر ثم يتفرق فى سائر البلدان، وكان إدريس قد ترك لزوجته دراهم معدودة لا تكفى لشراء ما يحتاجه البيت وأخبرها أنه سيحاول جاهدًا العودة إلى غزة فى أسرع وقت ولكن «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» فلقد مات إدريس فى الشام وجاء الخبر إلى غزة ليعصف بفؤاد سيدة وحيدة شابة وفقيرة، وبعد أشهر الحداد والعدة حملت فاطمة ابنها وذهبت به إلى عسقلان علها تجد مخرجًا هناك، حيث أكد لها غير واحد أن فرص الكسب هناك عديدة وأنها إذا خاطت الثياب أو عملت بالصباغة فإن هذا سيسد رمق عيشها ولكنها سرعان ما اكتشفت الحقيقة، فلم تجد نصيبها من العمل أو المال فقررت أن تحمل ابنها محمدًا إلى مكة حيث موطن أجداده، فهو قرشى الأصل، ولكن الأهل ضنوا عليه ولم يدفعوا لفاطمة إلا القليل، فذاق الطفل طعم الحرمان ومرارة العيش، ولكن الأم قررت أن تعمل فى حياكة الثياب وأن ترعى عنزة صغيرة تساعدها فى توفير المال الذى تحتاجه لتعليم ابنها وفق وصية الأب الراحل، وما إن وصل الشافعى الخامسة من عمره حتى ألحقته فاطمة بالدرس وعهدت به إلى أحد الشيوخ ليعلمه كتاب الله، فيظهر الطفل موهبة غير عادية على الحفظ والاستيعاب ويتميز عن جميع أقرانه، وفى سن العاشرة كان الشافعى قد أتم حفظ القرآن الكريم وأراد أعمامه أن يتعلم التجارة لكنه أبى وكذلك أمه التى كانت تطمح فى أن يكون عالما، ويذهب الشافعى إلى مفتى مكة «مسلم بن خالد» طالبا التعلم على يديه، فلما اختبره انبهر بما عنده من حجة وبيان، ومفتى مكة هذا هو من قال لايفتى ومالك فى المدينة، حيث كان يعيش الإمام مالك بن أنس، وقد أهدى الرجل كتاب الموطأ إلى الشافعى فحفظه عن ظهر قلب فى تسع ليال فقط، فأرسله مسلم بن خالد إلى المدينة كى يلقى الإمام مالك، وبالفعل التقى الشافعى مالكًا وتتلمذ على يديه، بل ولزمه حتى مات الإمام فى عام (١٧٩) للهجرة، وفى مجلس الإمام مالك تعرف الشافعى على بعض تلاميذ الليث بن سعد والذين جاءوا من مصر وتعرف كذلك على تلاميذ الإمام جعفر الصادق وحاورهم ودرس الفقه على أيديهم، وهكذا تنوعت الأفكار التى نهل منها الشافعى، لكنه لم يكتف بهذا، فسافر إلى بغداد كى يستمع إلى أبى يوسف ومحمد بن الحسن وهما من حملا علم وفقه الإمام أبى حنيفة النعمان، فى هذا الوقت كان الشرخ فى جدار الدولة الإسلامية قد اتسع، فالمدن تموج بعناصر مختلفة من فرس وروم وهنود، وظهرت عشرات من الفرق التى تطوع نصوص الدين لأفكارها وأهدافها وأراد الشافعى أن يلملم حبات العقد مرة أخرى فأخذ يجوب المدن بعلمه الغزير وبفقهه، يعلم الناس أمور دينهم التى اختلفوا فيها، ولما عاد إلى المدينة التقى والى اليمن أثناء موسم الحج والذى كان منبهرًا به فعرض عليه أن يتولى أمر «نجران» فكان بمثابة المحافظ أو رئيس المدينة، وهناك أقام الشافعى العدل وأحبه الناس ولكن ثمة من وشى به إلى الرشيد الذى كان قد تولى الخلافة واتهمه بالميل إلى العلويين، فأمر الرشيد بالقبض عليه وإحضاره من اليمن إلى بغداد ماشيًا على الأقدام وفى يده السلاسل والجنازير.. وللحديث بقية.