الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العدالة والقانون «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تناول «كانط» مفهوم العدالة على خلاف «المذهب النفعى» حيث تقوم الأخلاق عنده على العقل وحده، ما دام هو مصدر الإلزام الخلقى، ومن هنا نسب «كانط» إلى الأخلاق صفة «الضرورة المطلقة»، ونادى بوجود قوانين أولية كلية وضرورية فى مضمار السلوك الإنسانى. وفى كتاب «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» يقدم أوجه الاختلاف بين المبادئ الأخلاقية وقوانين الطبيعة، ويذهب إلى أن الاختلاف بينهما يكمن فى إحساسنا الذاتى بالإلزام بطاعة القوانين الأخلاقية. يقول: «إن كل إنسان لا بد أن يسلم بالقانون الأخلاقى، أعنى قاعدة الإلزام.. هذه القاعدة لا ينبغى أن تلتمس فى طبيعة الإنسان ولا فى ظروف العالم الذى وُضع فيه، بل لا بد من البحث عنها بطريقة قبلية فى تصورات العقل الخالص وحدها». وترتبط القوانين الأخلاقية عند كانط بمفاهيم «الحرية» التى تفرض حدودًا على التصرفات الخارجية للناس وعلى نواياهم الداخلية، ويعتمد أساس هذه النظرية على مبدأ «الحق» وهو شامل لجميع البشر؛ ومستمد من الحتمية المطلقة من خلال مفهوم «الإرادة الخيرة» التى توجه الإنسان نحو غايات وأهداف عامة تصحح مبدأ السلوك كله. ومن هنا رأى كانط أن «القانون» يعُد أمرًا واجبًا، ومن الضرورى فرضه وإجبار الآخرين على طاعته، لأنه مجموع الشروط التى تلائم بين حريتنا وحرية الغير، وفقًا لناموس شامل للحرية، أو على حد قوله: «القانون هو مجموع الشروط التى يمكن أن توحد حرية الفرد مع حرية الآخر وفقًا لقانون كلى للحرية». كذلك رأى كانط أن السيادة لا يمكن تقسيمها ولا يمكن حماية وضع الفرد كإنسان عاقل ومستقل إلا من خلال وجود دولة مدنية. 
لذلك ومن كل ما سبق، نحاول فى هذه المقالات رصد محاولات الفيلسوف الأمريكى جون رولز فيما يخص تصوره لنظام العدالة ونظام حكم القانون، ومحاولته الفريدة لطرح تنظير سياسى اجتماعى أخلاقى يدعم استقرار المجتمعات على نحو متكافئ ومتساوً، خاصة بعد إصدار كتابه: «نظرية فى العدالة»؛ إذ أثار- هذا الكتاب- جملة من التساؤلات التى تميزت بكثافتها أكثر مما أثارته أى نظرية أخرى فى العدالة الاجتماعية خلال القرن العشرين. وكذلك الدور الذى أداه التصور الكانطى لنظرية «الحق» و«استقلالية الذات»، و«مبدأ الأمر المطلق»، و«نظرية الواجب» التى تقوم على تأكيد أولوية الحق على الخير؛ بخلاف «الفلسفة النفعية» السائدة فى المجتمعات الغربية الليبرالية. كما أراد رولز أن تنال الشعوب حقها من خلال عدم المساس بمصالحها وذلك باحترام القانون العادل، ويتحقق هذا عندما يُعامل المجتمع أفراده كشخصيات أخلاقية، وقد أطلق عليه «قانون الشعوب»، ومعناه أن تلتزم كل الشعوب بأهداف «قانون الشعوب» ومبادئه فى علاقاتها المتبادلة. وفكرة مجتمع الشعوب – كما عبر عنها رولز – هى فكرة يوتوبية واقعية تصور نظامًا اجتماعيًا قابلًا للتطبيق يكفل الحقوق والعدالة السياسية لجميع الشعوب، كذلك كما صرح «كانط»: «يجب أن يقوم قانون الشعوب على أساس اتحادى بين دول حرة». 
تُعد نظرية العدالة عند رولز أهم محاولة فلسفية لبناء قاعدة نظرية للممارسة الليبرالية، فقد أكد على أن هدفه هو «تقديم تصور للعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعى الشهيرة كما وجدت فى أعمال لوك، وروسو، وكانط». معنى ذلك أن هدف رولز الذى يسترشد به هو التوصل إلى نظرية فى العدالة قابلة للتطبيق وبديلة عن التصورات النفعية الكلاسيكية والحدسية للعدالة، والتى سادت التقليد الفلسفى فترة طويلة من الزمن، وقد بدأ بتعريف العدالة بأنها: «الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هى الحقيقة للأنظمة الفكرية، ومهما كانت النظرية متسقة ومقتصدة لا بد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات مهما كانت درجة كفاءتها وجديتها لا بد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة». العدالة إذا هى أساس الهيكل الاجتماعى، لذا وجب أن تتفق سائر الإجراءات التشريعية والسياسية مع ما تقضى به مبادئ العدالة. ومن هنا يتعين – فى نظر رولز – تحديد القواعد والمبادئ التى تُسير المؤسسات الاجتماعية للعدالة؛ وذلك من خلال وضع نظام للعدالة مُنصف يتم تطبيقه على البنية الأساسية للمجتمع، أى على «المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة وبطريقة تلاؤمهما مع بعضهما البعض فى ترسيمة نظام تعاونى موحد». 
إن المادة الأولية للعدالة عند رولز هى البنية الأساسية للمجتمع، بمعنى آخر «هى الطريقة التى تُوزع من خلالها المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدد تقسيم المنافع الناتجة عن الشراكة الاجتماعية». والمقصود بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسى والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها ما يدل على الحماية القانونية لحرية التفكير، والأسواق التنافسية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن هنا يرى رولز، أن «أحد الأهداف العملية للعدالة كإنصاف هو توفير أساس فلسفى وأخلاقى مقبول للمؤسسات الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف يبحث – رولز – فى الثقافة السياسية العامة لمجتمع ديمقراطى، وفى تقاليد التأويل الخاصة بدستوره وقوانينه الأساسية، طلبًا لأفكار مألوفة معينة يمكن صياغتها فى مفهوم للعدالة السياسية». ويعتقد رولز أن بعض هذه الأفكار أكثر أساسية من بعضها الآخر، وأكثرها أساسية هى فكرة المجتمع بوصفه نظامًا منصفًا من التعاون الاجتماعى الزمنى من جيل إلى الجيل الذى يليه؛ والتى يعدها رولز فكرة منظمة ومركزية لتطوير مفهوم سياسى لعدالة نظام ديمقراطى.