الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود عسران يكتب: المفارقة التصويرية في شعر "ولأحزاني أغني" لبشير عياد

محمود عسران
محمود عسران
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"و.. لأحزاني أغني"
العنوان إشارة أولى إلى ما يمكن أن تنطوي عليه قصائد ذلك الديوان من مفارقات تصويرية ، وشارة هامة للمولج إلى نجاوي بشير عياد المشجية التي بثها في رباعيات ذلك الديوان ، فالغناء مرتبط في الأساس بالترنم والطرب ، لكن أن يغني للجراح أو للأحزان فإنما ذلك إيماض لما قد يُستبان بالنبش في تراكيب نصوص ذلك العمل،
لا مراء ، بدءًا ، أن الحزن والشاعرية متفقان الإتفاق كله ، فالحزن باعث قوي على تفتح ملكات الشعراء " وإن من المعروف المقرر في دراسات النفس أن لكل انفعال هزة نفسية خاصة به ، ومن الواجب الطبيعي إذن أن تكون له كذلك صورة خاصة به من التعبير"ولأننا أمام تجربة تحمل تناقضا خاصًّا ، حمله لنا العنوان طائعًا مختارا ، فقد وجب علينا استبانة صور ذلك التناقض في تعابير الشاعر الفنية ، ومس انعكاس ظلالها على نجاواه الذاتيه عبر ديوانه ذاك،
والمفارقة التصويرية آلية فنية يلجأ إليها الشاعر إبرازا لتلك التلاطمات الانفعالية التي تعمل داخل مخيليته ، فتستنفر بدورها إحساسه الذي ينثال في تعابير مصوره للتجربة المعيشة ، وليس المعنى بالمفارقة هنا مجرد التطابق القائم على التضاد اللفظي ، أو المقابلة القائمة على التوازي التراكيبي ، وإنما المقصود هنا هو ذلك التناقض الدلالي الممتد الذي يفاجئ به الشاعر قارئه دوما بمخالفة المصب الدلالى لمسارات الروافد ،
"والتناقض في المفارقة التصويرية في أبرز صوره فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل ، أو بتعبير مقابل تقوم على اقتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف ، والشاعر المعاصر يستغل هذه العملية في تصوير بعض المواقف والقضايا التي يبرز فيها هذا التناقض ، والتي تقوم المفارقة التصويرية بدور فعال في إبراز أبعادها"

والمفارقة واضحة لدى شاعرنا منذ المستهل ففي أغنية البداية نراه يقول:-
- لجراحي
ولأحزاني أُغَنِّي
لابتسام الشمس في الفجر البرئ
ولـ "سَلْمَى"
لندى زهر التمني
للذي
- في ليل عمري -
لا يجئ
شاعرنا يصدر الجراح والأحزان ، وكلاهما مبعث أسى ممض ، وكلاهما مستنفر نوح وشجى ، ولكن أن يُغني لهما ، فهذا تناقض غريب ، أو لعله يعني غناءً باكيًا ، والفعل "أغني" هاهنا موطن تلك المفارقة إذ الغناء لكل ما يبهج ، لا لكل ما يشجي ، ثم يقفز بنا عياد قفزة عكس المتوقع إكمالا لخيوط المفارقة ، فيخبرنا بأن غناءه أيضا ، كما هو للجراح والأحزان فهو لابتسام الشمس في الفجر البرئ ، ولـ "سلمى" ولعلَّ سلمى تلك هي مكمن الداء العضال ، إن ثمة سرًّا ها هنا وراء التصريح باسم ليلى شاعرنا ، فلعلها هي ابتسام شمس فجره ، ولعلها هي ندى زهر تمنيه ، ولعلها حلمه الغائب عن ليل عمره ، ويقينا ، هي سر يأسه ، فهذه الرباعية هي ملخص تجربة الديوان ، فنحن أمام شاعر يناغي آمالا ضائعة كانت مرتجاه ، فعياد يرقص على أوتار جراحه ، وينقل بإحساس الفنان تجربة مؤلمة عايش تناقضاتها ، فانطبعت في ذاته تعابير تترى ، فبثها مدادًا على ورق يحمل أبعاد تلك المفارقة العجيبة ، إذ كيف للجرح أن يضحك وأنى لعاقل أن يستوي لديه زغردة اليمام أو نوحه، لعله تناقض جنون الصبوة في العشق ، إذن ليلاه هي مكمن دائه ، وهذا مستهل المولج لفهم تجربته ،
أنماط المفارقة التصويرية
تتخذ المفارقة التصويرية في رباعيات بشير عياد عدة أشكال ، وإذا كانت المفارقة تقوم في أساسها على إبراز التناقض بين أمرين يمثلان طرفيها الآكدين ، فإنها لدى شاعرنا تمثل انعكاسًا حقيقيًا لحالة حقيقية كان يحياها عياد بكل تفاصيلها وما مفارقاته في مجملها إلا تصويرًا ناطقًا لما كان يعتمل في أعماقه حال انصهاره في حُميَّا إبداعه ، فهو لم يقصد إليها قصدًا ولم يتعمد إبرازها ، وإنما هي كانت صورة حَيَّة لحالة يحياها فهو ، لا مراء ، قد تجاوز ذاته فتحكم في تعابيره وأخرجها صادقة تماهي مابنفسه ، وتعكس لواعج ذاته العميقة ،
فكل مفارقاته كانت مفارقات دالة ، وجاءت في عدة صور نذكر منها:-
1- طرفان كاملان متقابلان:-
وهذا اللون يؤكد أحد شيئين ، أولهما أن الفترة الزمنية التي كتبت فيها الرباعيات كانت ممتدة جدًا ، وهذا ثابت بالفعل . ثانيهما : أن التناقض النفسي الملازم لعياد كان صورة حقيقية لمشاعر تلازمه ، وتأبى إلا أن تفرض نفسها على إبداعه وهذا النمط يقوم في أساسه على ثنائية ضدية طرفاها رباعيتان كاملتان تقومان في مقابل بعضهما ينقض بإحداهما ما أقره في الأخرى شأن قوله مثلًا:-
سال وهج الحسن من عينيك رائع
فاحتوانا
في ملاءات الفتون
أرضعينا نحن حرمنا المراضعْ
منذ أن فاضت بخديك العيونْ
نحن أمام شاعر مُوَلَّه ، عاشق ، شاعر تستوقفه دمعة يراها على خد محبوبته ، فيُفْتَتنُ بها ، ويسترشفها متلذذا استرشاف هائم مُدَلَّه ، ويحرم على نفسه من سواها ، ذائبا فيها ، متصاغرًا أمام حسنها ، وعلى حين نراه في رباعية أخرى ، وكأنه قد استفاق على حال لا يرتضيها لنفسه رمته بها يد الهوى فيقول :-
لا تظني أنني "عباد شمسك"
حيثما كنتِ أولِّ ناظريَّا
اعذريني
سوف لا أصغى لهمسك
لست إلا قطرة مما لديَّا
لعله عناد المتيم ، المؤدب نفسه ، وقد أذلته في الأولى فتلاشى أمام دمعة رآها ، فإذا به هنا وكأنما فر من عقالها لِتَوِّه فاستفاق على نهزه عنترية الطابع ، ليعلن عناده لذاته تلك فينفي عن نفسه صغار الدوران في فلكها ، ويستفزها بادعاءٍ هو فيه ، يقينا ، ليس صادقا ، إذ كيف تكون تلك المحبوبة مجرد قطرة مما لديه ، وهي من سبق له أن خاطبها قائلا :-
عنفوان السحر
من عينيك فاحْ
فامنحينا من رحيق الحبِّ
قطرةْ
ياملاكا
والمسافات حراجْ
والمدى دمع فكوني
فيه زهرة
فأيُّ القطرتين كانت محبوبته؟؟ وأي الرجلين كان ؟؟ أهو المعاند المكابر أم المتيم الهائم ؟؟ أم أنها المفارقة التصويرية التي آلى على ذاته المبدعة إلا أن يستخدمها لرصد تماوجات نفسه ، وتلاطمات نجاوى أفراحه وأتراحه؟؟ وهل نصدق ذلك الهائم المتيم أم ذلك الطفل الذي ينقلب رجلًا في لحظة يُسجل بها إملاء تلك التلاطمات إذ يقول :-
أنا طفل - في الهوى - لا تعجبي
أروع الأيام أيام الطفولهْ
يادليني الحب حبا
والعبي
إنني صعب إذا شئت الرجولهْ
إنه يستملح من الطفولة براءتها ، ويستعذب منها فعل الهوى بالنفس ، ويلمح بصعوبته حال تجاوزها إلى مرحلة الرجولة ، هو هاهنا عاشق لطفولته في الهوى ، ومتطلع إلى البقاء على تلك الحالة ، لكنه يريد أن يثبت لنفسه ولمحبوبته الوجه الآخر من شخصه ، حتى وإن كان مقتنعًا قي قرارة ذاته أنه لن يكونه ، إذ إنه دائم اجترار ما كان من ذكريات تلك المرحلة البريئة.
كيف ذبنا في الحكايات الصغيرة
من خلال الدرس
في دفء المدارس
تلك ذكرانا
فقولى ياأميره
من سواي الآن في عينيك فارس ؟؟
الشاعر في تينك الرباعيتين يضخم ذاته جدًّا في عجزيهما ، وكأنه يريد أن يغطي على ضعفه البرئ في المستهل بادعاء الرجولة والفروسية كلتيهما ، فهو في رباعيته الأخيرة يذكرها بما كان ، وأنه كان صغيرا فارسها الأوحد ويستنطقها بما إذا كان قد شغل مقامه لديها شاغل جديد ، ولكن هذه الفروسية المزعومة ، أو تلك الرجولة المصطنعة في الغرام تتلاشى فجأة حين نطالع رباعيته تلك التي يقول فيها:-
إن أتاك سائل عني
أجيبي
ذات يوم ... من هنا
مرت خطاه !!
كانت الأحزان من حظ حبيبي
جاءت الآلام ،، والليل محاه !!
فأين إذن تلك الفروسية المزعومة ؟؟ أو تلك الرجولة المصطنعة أمام ذلك التلاشي ؟؟ وهل يتسق ذلك الانكسار ، وهذا المحو مع ذلك التضخم المزعوم ؟ إن جمال هذا اللون من المفارقة لا يماط لثامه إلا باكتمال عناصره التي ينحل مجموعها في النهاية إلى عدة مفارقات جزئية تبرز التناقض جليًّا ، فعلى حين يضعنا عياد أمام دمعه المترقرق في عيون قلبه ، وجرحه المتسع على امتداد الكون حوله ، وهو يقر بتقصيرهما معًا في حق حبيهما ، مما عجل بتنائيها عن بعضهما البعض ، في لحظة انقطع فيها الأمل في العــودة تماما فيقـول ،
دمعة تجري ..
وأخرى واقفــة
في عيـون القلب ، والجرح اتساعْ
كنت تمثالا ، وكانت زائفـة
وتناءينـــا
ولا يُرجى ارتجــاعْ
فإذا به في رباعية تالية لها مباشرة يفجؤنا بموقف مغاير تمامًا وإذا بجرح فؤاده قد اندمل ، وإذا بالنور يعم المكان ، وإذا بالغناء المعبر عن البهجة يتردد في محيطهما كله ، وإذا بمن تناءيا يتلاقيان ، وإذا بالآلام تُتَنَاسَى جُمْلَةً في لحظة فارقة وإذا بنا أمام شاعر آخر لا يعرف الحزن ولا يعرفه ،
فاح عطر القلب إذ لاح الصباحْ
راح ليل
لست أدري كيف راحْ
وتلاقينا مع النور المبـاحْ
ثم غنينــا
تناسينـا الجراح
أنت هنا أمام شاعر مغاير تماما لمن تعرفه ، وهنا قد يجزم جازم بأنها رباعيات تمثل تجارب مختلفة ، وأن عيادًا كان يستملح المخافتة بين حين وآخر فيصرح بعكس ما كان قد حدث أو حدث به نفسه أو حتى صرح به هو نفسه ، إذ كيف تتماهى هذه الرباعية المبهجة مع سابقتها أو مع تلك التي يقر فيها بحزنه الملازم له حين يقول :-

تسألين القلب عن أخباره
اطمئنـي
(كل أخباري
حزينة)
قد تخلى القلب عن أسراره
وهوى في الوحل
في قاع المدينة
نحن يقينا أمام لون من التدجي الموجع ، أو أمام تجربة إنسانية لها أبعاد جلية وأخرى خافية ، فعياد هنا يمارس مع نفسه جلد الذات ، فلعل مخافتته بأسرار نفسه هي مبعث حزنه وهي مبعث إقراره بالهُوِيِّ في وحل قاع المدينة وخيط المدينة في شعر شعراء الأقاليم خيط شديد الإيلام لأنه خادش لنقاء فطرهم ، ولعل هذا سر إقراره بحزنه الذي صار ملازمًا له.
وعلى كل فهذا المنحى من المفارقة التصويرية القائمة على الثنائيات الضدية الكاملة ، إنما يمثل العمود الفقري لديوانه إذ يدور في الديوان كله دورانا ملموحًا ، يُستنبط من ورائه ما كان يعترك دواخله من مشاعر متلاطمة تخفت حينا وتبرز آخر ، لكنها في حاليها تبقى شارة على حالة ملازمة.