السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البث التليفزيوني للمحاكمات الجنائية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بجلسته المنعقدة في الرابع من أكتوبر 2010م، قرر مجلس القضاء الأعلى منع بث جلسات المحاكمات تليفزيونيًا. ولكن، نظرًا للظروف التي مرت بها مصر في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، لم يتحقق التطبيق الكامل لهذا القرار، وبحيث استمر البث التليفزيوني للمحاكمات الجنائية، لا سيما محاكمات رموز نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. ويمكن القول بأن قضية محاكمة الرئيس الأسبق ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وستة من مساعديه بتهمة قتل المتظاهرين، والمعروفة إعلاميًا باسم "محكمة القرن" أو "محاكمة القرن"، تأتي على رأس المحاكمات التي حظيت بتركيز إعلامي منقطع النظير وتم بث جلساتها على الهواء مباشرة في العديد من القنوات التليفزيونية، سواء عند نظرها للمرة الأولى بواسطة دائرة الجنايات المشكلة برئاسة القاضي أحمد رفعت، أو عند إعادة نظرها بواسطة دائرة أخرى مشكلة برئاسة القاضي محمود كامل الرشيدي، وذلك بناء على الحكم الصادر من محكمة النقض والإعادة. ويمكن تبرير قرار السماح بالبث التليفزيوني لهذه المحاكمات في ضوء الشائعات التي شككت في محاكمات النظام السابق، وذهبت إلى حد نفي حدوث هذه المحاكمات. فقد كانت المرة الأولى التي يقف فيها رئيس جمهورية سابق في قفص الاتهام. ومن ثم، ولتهدئة غضب الشارع، وتأكيدًا على رغبة الدولة في إجراء المحاكمات، كان قرار بث المحاكمات تليفزيونيًا. وبعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013م، وما أعقبها من لجوء جماعة الإخوان إلى ارتكاب العديد من الجرائم الإرهابية، لجأت الدولة مرة أخرى إلى البث التليفزيوني لمحاكمات الرئيس الأسبق محمد مرسي وأعضاء مكتب الإرشاد. وقد حدث في شهر يوليو 2017م أن تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديو شائع من إحدى ساحات المحاكم لأحد رؤساء دوائر الجنايات، يتلو نص الحكم في قضية على قدر كبير من الأهمية، حيث كانت القاعة مزدحمة والتصوير بالتليفون والتليفزيون. وقد استعان رئيس الدائرة بالعديد من الآيات القرآنية كمقدمة لنص الحكم، وللأسف فإن قراءته ونطقه لهذه الآيات ولنص الحكم شابها العديد من الأخطاء. ويبدو أن هذا الفيديو كان وراء قيام نادي القضاة بطلب اتخاذ مجلس القضاء الأعلى ما يلزم من إجراءات نحو وقف بث المحاكمات إعلامياً، إعلاءً لقيم وتقاليد القضاء الراسخة. واستجابة لهذا الطلب، وفي الثاني من أغسطس 2017م، قرر مجلس القضاء الأعلى «ضرورة الالتزام بقرار مجلس القضاء الأعلى السابق صدوره بجلسة 4 أكتوبر 2010 مع التنبيه على السادة القضاة وأعضاء النيابة العامة الالتزام بما ورد به مع التحذير من مخالفته تجنبًا للمساءلة». وطبقًا لهذا القرار، يجوز للصحفيين حضور الجلسات، كما يسمح لهم بالتصوير الفوتوغرافي، ولكن يحظر عليهم فقط التصوير الصوتي المرئي سواء بواسطة كاميرات القنوات التليفزيونية أو بواسطة كاميرات الهاتف. 

وفي الاتجاه ذاته، تنص المادة العاشرة البند الرابع من قانون المحكمة الجنائية المركزية العراقية الصادر عن سلطة الائتلاف برقم 13 لسنة 2003م على أن «يمنع البث التلفزيوني أو الإذاعي من داخل قاعة المحكمة عدا بث القرار الختامي في قضايا معينة». وجدير بالذكر أن هذا القانون يختلف عن قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005م، الصادر في التاسع من أكتوبر 2005م، والمختصة بالمحاكمة عن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وانتهاكات القوانين المنصوص عليها في المادة الرابعة عشرة من هذا القانون. وقد ورد هذا القانون خلوًا من النص على حكم مماثل، مكتفيًا بالنص على أن «تكون جلسات المحاكمة علنية إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية وفقًا لقواعد الإجراءات والأدلة الملحقة بهذا القانون ولا يجوز اتخاذ القرار بسرية الجلسة إلا لأسباب محدودة جدًا» (المادة العشرون البند رابعًا من قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا). ويبدو أن خلو هذا القانون من نص مماثل بحظر البث التليفزيوني للمحاكمات كان مقصودًا، حيث تم بث مقاطع مسجلة، بتأخير حوالي ثلاثين دقيقة عن وقت حدوثها، من جلسات محاكمة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.

وفي المملكة المتحدة، واعتبارًا من شهر سبتمبر 2011م، قررت وزارة العدل البريطانية بث جلسات المحاكمة الجنائية عبر التليفزيون للمرة الأولى، لتحسين فهم الجمهور لنظام العدالة. وتأتي هذه الخطوة بعد انتقادات بأن بعض المحاكم أصدرت أحكامًا متشددة على كثيرين من الذين أدينوا بالمشاركة في موجة أعمال الشغب التي وقعت في أنحاء البلاد خلال شهر أغسطس 2011م. إذ صدر الحكم بسجن رجل لمدة ستة أشهر بتهمة سرقة زجاجة مياه قيمتها 5 .3 جنيه إسترليني، بينما صدر حكم بسجن اثنين آخرين لمدة أربع سنوات بتهمة تحريض الناس على الشغب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" على الإنترنت، رغم أن ما نشراه لم يتسبب في عنف. وتبريرًا لإجراء البث التليفزيوني للمحاكمات الجنائية، قيل إن السماح بالكاميرات في المحكمة سيرفع ثقة الجمهور في كيفية تسيير نظام العدالة، ويسهم بشكل إيجابي في تعزيز الشفافية وفهم الجمهور للمحكمة. لكن هذا الإجراء اقتصر فقط على تسجيل ملاحظات القضاة الموجزة نهاية كل قضية، دون تصوير الضحايا أو الشهود أو المجرمين أو المحلفين. وبدأ تطبيق إجراء البث التليفزيوني في محكمة الاستئناف، ثم جرى توسيع نطاق تطبيقه بعد ذلك ليشمل المحاكمات الجنائية في محاكم التاج، حيث تنظر القضايا الأخطر. كذلك، تم التأكيد على أن وزارة العدل ستتخذ نهجًا حذرًا لمنع الكاميرات من تحويل المحاكم إلى مسرح. وجدير بالذكر أن المحاكم الإنجليزية قاومت طويلاً البث التليفزيوني للجلسات لجعلها تتماشى مع الممارسات المتبعة في بلدان أخرى.

والواقع أن إجماع التشريعات الجنائية المقارنة منعقد على مبدأ علانية الجلسات. وقد ورد النص على هذا المبدأ في المادة 268 من قانون الإجراءات الجنائية المصري. ومن ثم، قد يرى البعض في حظر البث التليفزيوني للمحاكمات الجنائية مخالفة لمبدأ علانية المحاكمة. على النقيض من ذلك، يؤيد البعض هذا الحظر، مؤكدًا أنه يحافظ على قدسية المحاكم والحرم القضائي، مشددًا على أن ذلك لا يتعارض مع الدستور أو القانون فيما نص عليه من علانية الجلسات، موضحًا أن المقصود بعلانية الجلسات هو السماح بدخول المواطنين إلى قاعات المحاكم أثناء انعقاد الجلسات. ويضيف هؤلاء أن العديد من وسائل الإعلام تنقل أقوال وتصرفات غير سليمة من المتهمين، ويتم بثها بهدف التأثير على الرأي العام، وكذلك استخدام كاميرات التليفونات في تصوير المتهمين داخل الأقفاص ونقل رسائلهم المتشددة للخارج.

تجدر الإشارة أخيرًا إلى أن هيئة المفوضين بمحكمة القضاء الإداري أصدرت في سنة 2011م تقريرًا قانونيًا في الدعوى المقامة من عدد من المحامين، لوقف قرار مجلس القضاء الأعلى في 2010م بوقف بث الجلسات، وأوصت فيه الهيئة بإلغاء قرار المجلس بمنع وسائل الإعلام من متابعة المحاكمات الجنائية وإذاعة وقائعها وتصويرها. وأوضح تقرير هيئة مفوضي الدولة حينها أن منع بث المحاكمات قرار إداري وليس عملًا قضائيًا، وبالتالي يدخل في اختصاص مجلس الدولة. وأشار التقرير إلى أن السلطة المختصة بمنع التصوير لأي محاكمة من اختصاص رئيس المحكمة فقط، وأن عدم علانية المحاكمات مقصور على حالات بعينها، وليس ما دفع به مجلس القضاء الأعلى من التأثير السلبى للتصوير على سير المحاكمات، خاصة أن قانون الإجراءات الجنائية وقانون تنظيم الصحافة كفلا حماية المحاكمات ومعاقبة كل مَن يسيء إليها.

لقد حرصت في هذا المقال على إفساح المجال للآراء والاتجاهات المختلفة في هذا الشأن. ونعتقد أن الموضوع يحتاج إلى تنظيم معين يكفل القضاء على بعض الظواهر السلبية التي شابت عملية بث المحاكمات في الفترة السابقة، خصوصاً خلال الحقبة اللاحقة على 25 يناير 2011م.. والله من وراء القصد.