الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كيف سارت العلاقة بين بوتفليقة والإسلاميين خلال 18 عامًا (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انطلاقا من ما يردده الذين يطرحون فكرة المصالحة مع جماعة الإخوان الإرهابية، والذين يفهمون خطأ ما تضمنه قانون الوئام المدني في الجزائر، والذي يعد بداية الطريق لعودة الجماعات الإسلامية الجزائرية عن عنفها، وبشروط الدولة وليس بشروطهم.
أكتب سلسلة من المقالات، توضح مسارات العلاقة بين بوتفليقة والإسلاميين، كيف بدأت وإلى ما انتهت، وأهم مراحل الصعود والهبوط فيها، وكيف كان قانون الوئام المدني، ومن بعده المصالحة الوطنية وميثاق السلم، وأهم شروط الدولة الجزائرية على من يدخل المصالحة، وكيف تقبلتها جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف، ولماذا فكت جماعات الإسلامي السياسي ارتباطها بنظام بوتفليقة بعد 12 عاما، كانت فيها حركتا "حمس" و"النهضة " جزءا رئيسيا من الحكومات المتتالية، وهل كانت لثورات الربيع العربي العامل الرئيسي في ذلك؟
تفكيك كل هذه الأبعاد، والإجابة عن كل هذه التساؤلات يتطلب الغوص في تفاصيل العلاقة بين النظام السياسي الجزائري والإسلاميين منذ 1999 حتى نهاية 2017.
فمنذ توليه السلطة، اتبع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استراتيجية اعتمدت على أسلوب المرحلية والتدرج في معالجة الأزمة الجزائرية، انطلاقًا من قانون الوئام المدني، والعفو الرئاسي الخاص، منتهيًا بميثاق السلم والمصالحة الوطنية. واستطاع بوتفليقة من خلال هذه الآلية أن يجمع كل القوى والتيارات الوطنية المحافظة والإسلامية التي كانت ترفض فكرة الحوار ووقف العنف، فاستطاع أن يجسد فكرة المصالحة بإصدار قانون الوئام المدني في إطارًا شرعيًّا لمعالجة العنف السياسي، وصولًا إلى عفوه الشامل عن بعض أفراد الجماعات المسلحة التي قبلت الهدنة بإرادتها.
قبل تناول التطرق إلى تفاصيل الاستراتيجية التي استخدمها بوتفليقة في دمج الحركات الإسلامية داخل النظام. نشير إلى أن الأزمة وصلت قبل بوتفليقة، أي بين نظام الرئيس الأمين زروال والحركات الإسلامية إلى أشدها، بل اقترنت مظاهر العنف السياسي بتأزُّم الوضع الاقتصادي والاجتماعي؛ ما أدخل الجزائر خلال تلك الفترة في صراع دائم بين النظام السياسي من جهة والمعارضة الإسلامية من جهة ثانية. وتصاعدت حدة العنف وأعمال المجازر الجماعية إلى درجة أنها أصبحت فعلًا متكررًا يوميًّا يحدث في مختلف بلديات الوطن الجزائري.
كانت أهم الآليات المستخدمة قبل بوتفليقة لوقف تلك المجاز، بما يعرف بـ"الوفاق الوطني"، الذي انعقد اجتماعه الأول في بداية يونيو 1994، رغم إنشاء لجنة الحوار الوطني في نهاية المرحلة الانتقالية للمجلس الأعلى للدولة. وفي بداية تشكيل اللجنة أجريت سلسلة من الاتصالات والحوارات مع مختلف القوى السياسية والدينية.
وكانت هذه الحوارات تستهدف الاسترجاع الحازم للسلم المدني، والرجوع في أقرب وقت إلى المسار الانتخابي الديمقراطي، وتعزيز العدالة الاجتماعية بتوزيع عادل للثروة الوطنية. إلا أن لجنة "الوفاق الوطني فشلت بسبب اكتشاف رسالة من علي بلحاج إلى أمير الجماعة الإسلامية المسلحة "الشريف قوسمي" الذي قُتل في إحدى الاشتباكات مع قوات الأمن في 26 سبتمبر 1994، يدعوه فيها بلحاج إلى مواصلة العنف المسلح، ويقول فيها إنه سيلتحق بالجماعة الإسلامية المسلحة بمجرد خروجه من السجن.
وبعد أن فاز الأمين زروال في الانتخابات الرئاسية، عُقدت ندوة الوفاق الوطني الثانية في 1996 بوصفها شكلًا من أشكال تحقيق المصالحة، وانتهت أيضًا بالفشل؛ لأنها لم تجمع حولها كل الأطراف المتصارعة، خاصةً أطراف الأزمة. من ثم يمكن القول إن محاولات الرئيس زروال لعقد المصالحة من خلال مبادرة "قانون الرحمة"، انتهت بالفشل؛ وذلك لرفض الجماعات المسلحة من جهة، وتملُّص السلطات من مسئوليتها تجاه من تمت تسميتهم "التائبين"، واختلال التسيير السياسي بسبب تطاحن الجماعات والهياكل الجهوية على أعلى مستويات القرار الوطني.
بعد فشل مسعى الحوار الوطني واستقالة الرئيس الأمين زروال، زاد الوضع الجزائري تدهورًا، وأصبحت الجزائر تعيش على وقع المجازر، وحملات الدول والمنظمات للتدخل في شئون الجزائر، فسارع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمجرد انتخابه، إلى طرح مبادرة الوئام المدني التي تقوم أساسًا على فكرة العفو والتسامح من أجل الجزائر.
وقد جاء في هذا الصدد خطاب بوتفليقة في 29 مايو 1999 ليؤكد من جديد هذا المسعى؛ حيث قال: "إنني أتوجه رسميًّا إلى من عاد إلى الله والوطن وسواء السبيل، فأؤكد بصفة قطعية أنني مستعد تمام الاستعداد للإقبال عاجلًا على اتخاذ كل التدابير التي تخولهم العودة الكريمة إلى أحضان أمتهم في كنف احترام قوانين الجمهورية، بشرف وعدالة وقسطاس. إن عودتهم عن اختيار وطواعية، تكفل لهم حق الإسهام ضمن المجتمع في تحقيق تطلعاته وتجسيد آماله في العزة والكرامة للجميع. وإذ أفتح هذه السبيل التي تمكن للإياب إلى سنن الهدى والرشاد، فإنني على يقين بأنني بقراري هذا، أستجيب لما تصبو إليه الأمة من أعماقها، وإلى ما تتطلع إليه من سلم وأمان واستقرار وأمن".
وبعد إعلان الرئيس "بوتفليقة" عن مشروع الوئام المدني، صدق عليه البرلمان الجزائري، ثم عُرض القانون على استفتاء شعبي في 16 سبتمبر 1999، فوافق عليه الشعب، وبعدها أصبح مفهوم المصالحة قاسمًا مشتركًا بين الأحزاب السياسية والشعب لأول مرة منذ 1992.
لكن الملاحظ في تجربة المصالحة الجزائرية، أن قانون الوئام المدني الذي مثل تطبيقه الاستراتيجية الأولى لنبذ العنف وتحقيق المصالحة؛ قد منح عفوًا مشروطًا للإسلاميين المتطرفين المستعدين لتسليم أنفسهم للقضاء والعزوف عن معاودة أعمال العنف قبل 13 يناير 2000. أما من رفضوا شروط الدولة ولم يلقوا سلاحهم، استمر القتال معهم، وطاردتهم قوات الجيش، وسكنوا الجبال.
تفاصيل المصالحة الجزائرية، وواقعها، وملابساتها وسياقها الإقليمي والدولي، يحتاج تشريحها بعناية تامة، حتى يفهم من يستخدمونها في ترويجات خاطئة، غير مبررة ولا مدروسة، ومرفوضة مسبقا. لذلك سنتطرق في مقالات تالية إلى تفاصيل قانون الوائام المدني والمصالحة الوطنية، وحدود تطبيقهما في دول أخرى، اختلفت في السياق والظروف.