الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"فرقعة بمب"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في قريتنا وكعادة المصريين جميعًا، كنا إذا سمعنا صوت هذا الرجل عالٍ إلا وهرعنا، لنشاهد وصلة السباب، كنا نتساءل في البدء عن الطرف الآخر، وبالنسبة للأطفال الصغار، كان البطل ذلك الرجل الشتّام، الذي في كل مرة لم يأت بجديد فقط، يا ابن فلان وفلانة.. يا اللي كنت بتشتغل عند فلان.. بعد فترة أصبح الرجل يطلق السباب وحده، في الشارع دون أن يجد له متفرجًا وحيدًا، وبات يعلي من صوته.. حتى يخرج الناس.. لكن لا أحد يهتم، حتى وصل به الحال إلى أن يشتم ويسب في ميكروفون الناس، ثم نفسه، اعتبره الناس مجنونًا.. فبدأ يهزي دون أن يلتفت إليه أحد.. حينما كبرنا رأينا خصومة الصامتين، يتصدرون مجالس الرجال، تعلمنا وعرفنا أن الرجال لا ينبحون، ولا يمضغون الكلمات، ويبصقونها كالغانيات، وأن هذا الرجل، ومثله كثر، كذلك «البمبم»، الذي كنا نشتريه من الدُكان، يُحدث فرقعة ثم ينطفئ وتدهسه الأقدام، لذا حرصنا على أن نكون كبارًا حينما نتكلم، وحينما نمسك بالقلم، وأن لا نجالس ولا نحاور المشخصاتية، فمن فرط تقليدهم لغيرهم باتوا بلا شخصية.

لم نكن من وجهاء القوم، لكن كنا من دور مصرية، لا تنسى رائحة الطين، ودفء الطوب اللبن، لا نرمي امرأة بلفظ ولو كان فيها، ولا نجحد الأيادي التي امتدت إلينا من الأهالي، كبرنا أنا وزملائي وكل سار في طريقه، واخترت أنا بلاط صاحبة الجلالة، كنت آراه صرحًا مجيدًا، أخلع نعلي على بابه، فالكلمة كل شيء.. في البدء كانت الكلمة.. الروح كلمة.. الحياة كلمة.. أنا كلمة.. لذا أقدسها واحترمها.. لم يكن يعنيني أي شيء.. لم أنشغل بما يقال عن المهنة، ولم أضع زميل ولا زميلة، مهما قيل عنهما إلا في خانة التقدير، لم أزدري أحد اختلفت معه في الرأي بل أرى فيه الجانب المضيء، لم أساوم على مبادئ ورأيي.. ولا يشغلني من مع من، ومن ضد من.. أنا مع الله والوطن والناس.. طيلة الوقت أحرص على ألا أكون مثل ذلك الرجل الشتام في قريتنا.

بعد سنوات كنت فيها راهبًا منكفئًا على الورقة، وجدت محرابي الذي أصلي فيه تحول إلى ذلك الشارع في قريتي، وأن من يقفون معي على نفس السطر، ويمسكون نفس القلم، تحولوا إلى ذلك الرجل الشتام، ووصفوا زميلاتهن بالجواري والغواني، وكأنهم أولاد هذا الرجل، حفظوا عنه ما كان يقوله من سباب، ولوهلة كنت سأندفع اندفاع الصبية لأرد عليهم، فهذه الأقلام تستحق القصف.. لكني تذكرت مجالس الرجال وصمتهم عن النباح، تذكرت أن كل هذا الضجيج لـ«بمبم» من الدكان يفرقع ثم ينطفئ.. فوليت وجهي عنهم.. فيا رفاق القلم ويا رهبان صاحبة الجلالة كونوا على قدر الرسالة، فأنتم أنبياء عصركم.. فلا يشغلكم عن الأذان صدى صوت، لعجل خوار، صنعه الزيف.