الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العدالة والقانون «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شغلت فكرة العدالة اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور، لأنها أسمى قيمة اجتماعية فى الحياة. وقد ربط بعض المفكرين بين فكرة المجتمع المثالى والمجتمع الذى تسود فيه العدالة، إذ تشكل «العدالة» المدلول الحقيقى لجميع القيم والمثل التى تنظم علاقة الفرد بالمجتمع. والعدالة– بصفة عامة – تكمن فى صميم فلسفة الأخلاق والسياسة وهى الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، على حد قول الفيلسوف الأمريكى جون رولز، إن لم تكن هى الفضيلة الوحيدة؛ بمعنى أنها فضيلة أساسية للأفراد فى تعاملهم مع الآخرين، أى أنها فضيلة شخصية واجتماعية فى آن واحد. وهذا هو ما جعل سقراط يثور فى وجه السوفسطائيين ويرفض نسبية الفضيلة مؤكدًا أن الفضيلة واحدة رغم تعدد مسمياتها، وهى تكمن فى الضمير الإنسانى الحى الذى يرشدنا دائمًا إلى الخير أى فى سلوك الصدق والابتعاد عن الكذب، وطريق الأمانة والعدل. وهكذا فرغم تعدد أسماء الفضائل إلا أنها فى جوهرها فضيلة واحدة، هى الطريقة التى تكمن فى تعاملنا مع الأفراد والمجتمع. 
ولقد حظى مفهوم «العدالة الاجتماعية» بقدر كبير من الأهمية على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادى، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفى الخطابات المعاصرة وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطنية. ومن هذا المنطلق، تعتبر العدالة قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر مع بعضهم البعض، فهى محور مهم فى الأخلاق وفى الحقوق وفى الفلسفة الاجتماعية؛ حيث تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية. العدالة إذن، فضيلة شخصية سامية، وهى موجودة دائمًا فى سياق اجتماعى معين.
والحقيقة أن الرؤية السياسية لمحاورة «الجمهورية» لأفلاطون يمكن أن نراها تخطيطًا لذلك السياق الاجتماعى نفسه، فأفلاطون هو صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم فى تاريخ الفكر الغربى، وهو واحد من أوائل العلماء الاجتماعيين، وأقواهم تأثيرًا، حيث طبق منهجه المثالى بنجاح على تحليل حياة الإنسان الاجتماعية وقوانين تطورها؛ فضلًا عن شروط استقرارها. وقد عبر أفلاطون عن ذلك فى الكتاب الرابع من «محاورة الجمهورية» بقوله: «إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدى عمله دون أن يتدخل فى عمل غيره». وفى الموضع ذاته يقول: «العدالة هى أن يمتلك المرء ما ينتمى فعلًا إليه، ويؤدى الوظيفة الخاصة به».
ولقد نشأ نزاع حول مفهوم «العدالة» الاجتماعية خاصَة فى التعامل مع قضايا مثل: توزيع الدخل، والسيطرة، واستخدام الموارد الطبيعية، وتوزيع الفرص التعليمية والوظيفية التى انتشرت على نطاق واسع فى مجتمعاتنا؛ وقام عدد من الفلاسفة بتقديم رؤى مختلفة حول مفهوم العدالة وارتباطها الوثيق بالأخلاق والقانون، وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق والواجبات والالتزامات بما يتماشى مع روح كل عصر. ومن هؤلاء الفلاسفة جون رولز، حيث أكد فى مواضع كثيرة من كتاباته على أن المفهومين الأساسيين فى مبحث «الأخلاق» هما مفهوما «العدل» و«الخير»، يقول فى كتابه «نظرية فى العدالة»: «أعتقد أن مفهوم «الشخص الأخلاقى» ذاته قد تم استنباطه من مفهومى «العدل» و«الخير»، وهكذا تتحدد البينة لنظرية أخلاقية من خلال الطريقة التى تنتظم بوساطتها الصلة بين هذين المفهومين». 
من هذا المنطلق، بدأ تصور رولز للعدالة من معارضته لتصورات «الفلسفة النفعية» التى بلورها عدد من الفلاسفة النفعيين أمثال: «جيرمى بنتام»، و«جون ستيوارت مل» وآخرون، والتى سيطرت على الفكر السياسى والأخلاقى فى العالم الغربى. وقد تبنت هذه الفلسفة مبدأ المنفعة بوصفه غاية لكل سلوك أخلاقى، وعلقت أخلاقية الأفعال الإنسانية على مدى ما تحقق من منافع أو تدفع أضرار (أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس)، وأقرت بأن الأفعال تكون صائبة إذا كانت تميل إلى تحقيق السعادة، وتكون خاطئة إذا مالت إلى الشقاء والتعاسة. أراد رولز أن يقدم بديلًا عن «المذهب النفعى» لأنه لا يقدم تفسير مرضِ للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو متطلب – على حد قوله – «ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية».