الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فوزي أمين.. شاعر العبقرية الفذة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في يوم الإثنين الماضي دُعيت إلى مناقشة علمية لمنح درجة الماجستير بكلية الدراسات الإسلامية _ جامعة الأزهر الشريف، وكانت الرسالة عن شعر شاعر العربية الفذ المرحوم الأستاذ الدكتور فوزي أمين ذلك الرجل الذي شرفت بالجلوس إليه طالب علم وشرفت بالجلوس إليه مناقشا لي في رسالتي لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي، وشرفت قبل ذلك كله بأنه كان المتسبب الحقيقي في التحاقي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب إذ أتذكر جلوسه إلى أبي وأستاذي المرحوم الدكتور عبدالهادي عطية، وكنت قد التحقت على غير رغبتي بقسم اللغة الإنجليزية وأتذكر توجهه لي بالسؤال، وأنا لا أعرف أنه المسئول عن قسم اللغة العربية، كم مجموع درجاتك بمادة اللغة العربية فقلت له: كذا وكانت أعلى درجة حصل عليها طالب ملتحق بكليتي الآداب والتربية آنذاك.. فقال لي كيف تكون حاصلا على تلك الدرجة وتلتحق بقسم غير اللغة العربية؟ فما كان إلا أن التحقت من فوري بقسم اللغة العربية الذي أعشقه وكان الفضل لله ثم لذلك الرجل .
وأشد ما أبكاني بكاء تلميذه الوفي الأستاذ الدكتور محمد عبدالرازق مكي وهو يستعرض حياة الرجل أثناء مناقشة الباحثة. ويتذكر له مواقفه معه أستاذا وزميلا وكيف أنه خصه بما دق من أسرار حياته وإبداعه وهو لمن لا يعرفه
الأستاذ الدكتور (فوزي محمد أمين) الذي ولد في بيئة ريفية بكر، في حصة الغنيمي أحد أعمال محافظة كفر الشيخ، سنة إحدى وأربعين وتسعمائة وألف، وكان أن فاكه الأدب حوتيه صغيرا فغاص في لججه الطوامس استكناها لعوالمه الفريدة شعرا ونثرا، مما حداه إلى الالتحاق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة الإسكندرية فتخرج فيه شابا، وامتهن أسمى مهنة ليعمل معلما للغة الضاد بالتربية والتعليم، ثم يحصل على درجة الماجستير في الأدب العربي وينتقل على إثر ذلك ليعمل مدرسا مساعدا للأدب العربي بقسم اللغة العربية في كلية الآداب، فمدرسا بعد حصوله على درجة الدكتوراه في التخصص ذاته، فأستاذا مساعدا ثم أستاذا متفرغا في نهاية المطاف، فضلا عن تنقله بين العديد من الجامعات العربية لتدريس الأدب العربي، ومشاركته في معظم المهرجانات الشعرية داخل مصر وخارجها، وإثرائه المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات الإبداعية والنقدية، وهو شخص تروقك مجالسته إذ يتسم بحدة الذكاء، وحضور الذهن وخصوبة الواعية وقوة الذاكرة والجرأة في الحق، فضلا عن انعكاس ما حصل من آداب ومعارف على شخصه مما جعل له تفردا وخصوصية بين مجايليه، يغلف ذلك كله حسن خلق وكرم طبع يندان عن المثيل، رجل ذو عبقرية شعرية مغايرة شغلت حتى النخاع بتقييم الواقع من زاوية لا يراها الآخرون، فبدت عازفة على وتر نافر في قيثارة الشعر، ومستخدمة ما لم يعهد من معجم شعراء الجيل، فهو –في زعمي- قد تجاوز مرحلة نضج التجربة الشعرية والشعورية إلى مرحلة التكامل الإنساني والقمة الفكرية والفلسفية، لذا وجدناه يشيح عن جراحاته الخاصة لينكأ جراحات الأمة بأكملها من حوله.
وشاعرنا "هو الذات المحورية في إنتاج الخطاب؛ لأنه هو الذي يتلفظ به من أجل التعبير عن مقاصد معينة، وبغرض تحقيق هدف فيه ويجسد ذاته من خلال بناء خطابه، باعتماده استراتيجية خطابية تمتد من مرحلة تحليل السياق ذهنيا والاستعداد له، بما في ذلك اختيار العلامة اللغوية الملائمة، وبما يضمن تحقيق منفعته الذاتية بتوظيف كفاءته للنجاح في نقل أفكاره بتنوعات مناسبة. ولا يمكن للغة الطبيعية أن تتجسد وتمارس دورها الحقيقي إلا من خلال المرسل، فتصبح موجودا بالفعل بعد أن كان وجودها بالقوة فقط، ليس هذا فحسب، بل يكون وجودها ذا فعل مناسب للسياق، فبدون المرسل لا يكون للغة فاعلية.
والغائص في شعر فوزي أمين يروعه ما تحلت به موهبته من شاعرية فذة وليس لنا سوى أن نستعرض بعض الجوانب من تلك العبقرية ولنأخذ مثلا مؤشر الليل على هيئات وأشكال محددة.
ولأن اللفظ هو وسيلة الاتصال لدى الإنسان ولأنه وعاء تجربته فقد وجب من هذا المنطلق تركيز المجهر على ما كثر تواتره في أي مدونة أدبية لأن "التجربة الإنسانية تتتابع بوصفها تيارا مستمر وفي اتجاه واحد، مخلفة وراءها سجلا خالدًا للخبرة الاتصالية للإنسان.
مؤشر الليل:
الذات المتلفظة تداوليا هي المرسل في السياق العام، والمرسل تلفظ في لحظة ما وهي لحظة الدفقة الشعورية التي سجلت شعرا، ولأن لحظة التلفظ هي المرجع في الاستبانة لذا وجب التركيز على الوقت الغالب في ملفوظات المدونة لاستبيان سر تركيز الشاعر عليه تحديدًا دون غيره، فالليل مهبط الشجن والليل باحة المتأملين، والليل رسول الإلهام، والليل مرتع الهموم
وعدت .. تركزني في السهد أسئلة لها على الليل قرع كالنواقيس
والليل مثار اللواعج، ومثار الذكريات
في الحان ليلى وليلها عجب
إن أقبلت بالكؤوس ساقية
إن ثارت الخمر بالمواجيد
أقول أسهرت ليل تسهيدي

وقد يتصل أمر ذكر الليل بذكريات يستعيدها الشاعر في شكل تهويمات تتتابع عليه، والليل مجال لذكر ذلك كله، خاصةً إذا كان الليل رفيق تلك الذكريات وجزءًا منها.
وينقضي الليل مثلما حلم 
وحين أصحو .. ما ثم غير يد
"جنان" منه في كل معقود
خلت.. وقلب في الهم مصفود
وقد لا يحتاج الشاعر إلى وصف ليله بالسواد، لكن تقابلات الصياغة الشعرية قد تحتاج إلى إبراز عنصر التضاد حادًا قويًا، وهنا يستمد الشاعر من السواد طرف تقابل مع غيره ليخلق الإطار الدلالي المقصود، فإذا كان بصدد ترقب لانفراج ضيق، يكون استشراف الضوء وسط الظلام أنسب ما يكون، ومن ثم يكون السواد ألصق بهذا الموقف، وأقدر على إبراز المقابل وهو الانفراج
دع لمهموم دجى سهره
خذ من الأيام بهجتها
ليلنا غنى على نغم
واجن من ليل سنا قمره
واصف يصف العيش من كدره
صادحات الطير من وتره
وقد يرى الليل معادلا موضوعيا للوهم الذي يختلقه آدم لنفسه ويصنع منه جدرانًا تحجب عنه النور ثم يصدق هذا الوهم
فبنى من ليله جدرًا
وانزوى يشكو عشا بصره
وقد يسوقه طول ليله إلى اللجوء إلى بنية "المواليا" فيلجأ إلى صيغة الاستدعاء الشعبية المأثورة، القائمة على الموال، ولا يكتفي بذلك، إنما يتخذ من تينك البنيتين المأثورتين عنوانين لقصيدتين في ديوانه "أهل الهوى ياليل" و "ياليل .. يا عين"، فنراه يردد في الأولى قوله:
ياليل .. يا أنداء .. يا قمر
ياليل .. يا أنداء .. يا قمر
ياليل .. يا أنداء .. يا قمر
ياليل .. يا أنداء .. يا قمر
ياليل .. يا أنداء .. يا قمر
كم من هوى يشقى به البشر
أهل الهوى عَذروا وما عُذروا
أحجية حارت بها الفكر
ياليت مما مر نعتبر
يا ليل .. يا أنداء .. يا قمر

لعل للعاطفة المنكسرة هنا تدخلا في فرض هذا الاستدعاء المر على الشاعر الذي اعتمد تكرار التيمة ذاتها في خواتيم مقاطع قصيدته تجسيدًا للحزن، ونقلا للعزف الشجي على أوتار ذاته الحزينة.
ونرى التيمة الشعبية ذاتها "ياليل .. يا عين" في رائعته الثانية، فالليل ظلمة وتجهم، والعين حزن دامع، وعلى المسارين يعزف شاعرنا على قيثارة آلامه ألحان نجاواه المشجية
ياليل .. يا عين .. كم يشقى بدنياه
ياليل .. يا عين .. قد حارت معازفنا
ياليل .. يا عين .. أمسى شعرنا رهقًا
ياليل .. يا عين .. من للسر يرعاه
ياليل .. يا عين .. من للفجر نرسله
ياليل .. يا عين .. قد غمت مسالكنا
من ليس تخدعه بالزيف عيناه
وبات ينكر لفظ الشعر معناه
أنحن فرسانه أم نحن صرعاه
إن ضاق صدر وهم الليل أضناه؟
لعله بالمنى يزجي سراياه ؟
فأين نمضي وكل الناس أشباه
إنه لحن رثاء يبكي فيه شاعرنا حال مصر، ويستحضر صورة الخصيب والي خراجها أيام النواسي، الخصيب الذي كان صاحب كف ندية وتاريخ اقتصادي مشرف، ولقد أقام شاعرنا أمامنا مشهدًا دراميا متكامل الجوانب، تعددت فيه الشخوص والحركات والأصوات، وضفر بين أبطال المشهد ضفيرة درامية متينة تقوم على جدلية لغوية محكمة نجح من خلالها في إحداث إسقاط على واقع ممض عايشناه وعانينا مرارته، ونقل لنا بأمانة شديدة خيوط سياق عام كنا وحدان خيوطه.