الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بين القانون والأدب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرًا ما يسألنى البعض: لماذا تكتب فى الأدب الذى يعبر عن المشاعر وأنت رجل قانون عليك أن تُعلى من قيمة العقل والمنطق؟ أقول: إن الإنسان كلٌّ متكامل لا ينفك بُعْده الشعورى الوجدانى عن بُعْده العقلانى التأملي، والأدب والقانون يسهمان بوتيرة واحدة فى بناء الإنسان ورُقيِّه.
إن مَن ظن أنه لا علاقة بين القانون والأدب؛ فقد حاد وذهب إلى النقيض؛ إذ إن العلاقة بينهما على أشُدِّها، ومن حيث يُظنُّ أن لا علاقة، توجد العلاقة، وكيف لا توجد وكلا النصين: الأدبى والقانوني، يولد من رحم المعاناة؟! وكيف تنعدم والأدب يحكمه قانون، والقانون يُصاغ بأدوات من الأدب ؟!
ألا ترى أننا إذا أردنا أن نحكم على أى منهما، محللين أو موجهين سهام النقد، نستخدم الأدوات التفسيرية ذاتها، أننا ننظر فى العصر الذى صيغ فيه النص الأدبى أو القانوني، ونبحث فى البيئة التى أحاطت بهما فى لحظة الولادة، فالنص وليد بيئته وعصره.
وإذا قال قائل: إن القانون يحكمه المنطق، والأدب يحكمه العاطفة، قلت: إن فى كليهما منطقًا؛ ذاك أن فى المنطق عاطفة وفى العاطفة منطقًا، وهل المنطق القانونى لا يراعى العاطفة؟! كيف ذلك والنص القانونى ما جُعل إلا لينظم سلوك الأفراد، ويبين ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، إنها العاطفة فى أوسع وأسمى معانيها، وبالمثل، فهل الأدب لا يحكمه المنطق؟! كيف ذلك والعاطفة فى ذاتها منطق؟!
إننا فى كثير من الأحيان لا نحتاج إلى تطبيق النص القانوني، وإنما نحتاج إلى تطبيق روح ذلك النص، والسؤال: كيف سيَعْدِل القاضى عن تطبيق النص إلى تطبيق روحه، إن لم يستشعر ذلك بحسه الأدبى قبل حسه القانوني؟! إن القاضى الإدارى حينما يجتهد ويُعمل فكره ويخلق لنا مبدأ قانونيًّا عامًّا، نسميه مبدعًا، وما الإبداع إلا أدب.
بل أكثر من ذلك، فإن كثيرًا من الأحكام القضائية ما هى إلا عبارة عن مقطوعات أدبية، بل تكاد تقترب من الشعر فى موسيقاه، وهذا ليس غريبًا، فاللغة العربية بجميع فنونها هى من أهم أدوات رجل القانون، فبها يقرأ وبها يكتب، وعلى هدى معانيها يفسر ويحلل، انظروا إلى هذه العبارة الشهيرة التى نطق بها قضاء محكمة النقض وهو بصدد الحديث عن عيب الغَبْن، أحد عيوب الإرادة: «طيشًا بيِّنـًا أو هوى جامحًا»، إنها عبارة أدبية موسيقية بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، وما هى إلا مثال.
وكما أن رسالة الأدب رسالة إنسانية، تحمل فى طياتها هموم البشر، وتسعى إلى خلق حياة سعيدة، تسودها قيم العدالة والمساواة، فإن هذه القيم هى ذاتها التى يحاول القانون نشرها بين بنى البشر، ومن أجلها تُسن القوانين وتوضع اللوائح، وهذا يعنى أن رسالة الأدب والقانون رسالة واحدة، والاختلاف بينهما فقط اختلاف فى طريقة التعبير وآلية التنفيذ؛ فبينما تقوم رسالة الأديب على الرمز والإيحاء واستخدام التعبير الشعري، ومخاطبة المشاعر والأحاسيس، تقوم رسالة المختصين من أهل القانون على التعبير الواضح الصريح ومخاطبة العقول والأفكار.
إن أداة الأديب فى كتابته هى الخيال، فالأدب قائم على الخيال، وكذلك عمل رجل القانون فيه بعض من التخيُّل، فما القضية إلا قصة مكتملة المحاور: أشخاصها: الجناة والمجنى عليهم، وأحداثها: وقائعها، ومسرح الجريمة: مكانها؛ وعلى ممثل القانون أن يستحضر أحداث هذه القصة فى مخيلته؛ كى يميز بين الروايات الصحيحة منها والملفَّقة، من أجل عمل موازنة دقيقة يمكنه من خلالها أن يتبين وجه الصواب من الخطأ، حتى يُسدل الستار وترفع لافتة النهاية.