الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

أبناء السودان في مصر.. اختاروا البؤس على الموت (ملف)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما تخطف مباراة لفريق برشلونة فى الدورى الإسباني.. أنظار جميع من فى مقهى لا يحمل اسمًا فى منطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة، لا يعير اللاجئ السودانى ياسر إسماعيل، الشاشة التى يحدق فيها الجالسون بجواره أى اهتمام؛ يعطى ظهره للمباراة، وينظر أمامه إلى المارة فى الشارع، ربما يذكرونه بشوارع بلدته «الفاشر» القابعة فى جنوب غرب السودان، والاشتباكات المسلحة، التى تدور فيها لأسباب سياسية وقبلية، أو أن ذاك الرجل العجوز، وتلك السيدة المسنة المارين أمامه يذكرانه بالوالدين، اللذين تركهما، ولا يعرف إن كان سيلتقيهما ثانية أم لا؟.
يتحدث الشاب الذى يدير المقهى الصغير، غير المرخص، إلى «البوابة»، بينما عيناه تشعان حزنًا، يخفى همومًا كبيرة،: فيقول «منذ شهرين فقط جئت إلى مصر، فارًا من الاشتباكات المسلحة، التى لا تتوقف فى جنوب غرب السودان، خوفى على حياتى دفعنى إلى القدوم إلى هنا، مصر أقرب وأسهل دولة يمكن اللجوء إليها، تركت أبى وأمى المسنين، وليس لهما غيرى وجئت إلى هنا، لم يكن لدى خيار آخر، إما أن أجلس وأتعرض للقتل فى الاشتباكات والحرب التى تطال الجميع دون ذنب، أو أحاول الهروب، حتى وإن استقر الأمر على ظروف كالتى أعيشها هنا». 
يبلغ عدد اللاجئين السودانيين فى مصر نحو ٥٠ ألف لاجئ، بحسب إحصائية أصدرتها هيئة مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة خلال العام الجاري. ويتمركزون فى أرض اللواء وعين شمس والمعادي. 

لا يملك أغلب السودانيين على المقهى، وهم كثر، أية أموال يدفعونها عن «المشاريب»، التى يتناولونها بسبب ظروفهم المالية المتعسرة للغاية، وعن ذلك يقول الشاب مدير المقهى: «صاحب هذا المكان سودانى مثلنا، ويراعى ظروف من يأتون إلى هنا، بعضهم يجلس بالساعات على مشروب شاى فقط.. هم مكبلون بالهموم وليس لديهم أموال، ويريدون الترفيه ولو قليلًا عن أنفسهم، ولا يمكن أن أكون سببًا فى زيادتها عليهم».
  
شقة على البلاط 
يسكن ياسر، وهو لم يتحصل إلا على الثانوية العامة فقط، مع مجموعة من الشباب السودانيين فى شقة على «البلاط» فى منطقة أرض اللواء. وهو نظام يتبعه كل من فى الشارع والمنطقة من السودانيين والأفارقة «إريتريين وصوماليين وإثيوبيين». 

وتمكن السودانيون من شوارع أرض اللواء، حتى أن هناك شوارع لو مشيت فيها لن تعرف ما إذا كنت فى مصر أم فى السودان؟.. ولا غريب أن تجد سيدة سودانية تتشاجر مع صاحب مخبز مصري، وتنتصر السيدة بعد تدخل زوجها، فيما يبدو بأنك فى منطقة للسودانيين يستضيفون مصريين فيها، وليس العكس. 

يكسب الشاب شهريًا من عمله فى المقهى ١٥٠٠ جنيه تقريبًا، يدفع منها مبلغا لإيجار السكن الذى يشارك فيه مع ٥ آخرين، ويوضح «ندفع للشقة كل شهر ٨٠٠ جنيه.. لا تقسم بالتساوي، فالبعض لا يكون قادرًا على الدفع.. من يتشاركون هم من يقدرون فقط»، يوضح الشاب السوداني، ويضيف: «أحمل هم فواتير الكهرباء والمياه والغاز». 

ويضطر عدد كبير من اللاجئين إلى العمل فى مهن بسيطة للغاية، مثل النظافة أو حراسة العقارات أو فى المقاهي. ويعانون من عدم وجود فرص عمل ولا سكن، ويرون أن مفوضية اللاجئين «ترميهم وتتخلى عنهم»، فلا تهتم بتوفير الاحتياجات الأساسية لهم، ولا بهم شخصيًا. بل تعتبرهم مجرد أرقام تنشر فى دوريات الأمم المتحدة وتعلن فى اجتماعاتها.

ويختار السودانيون الفارون من جحيم الحرب والظروف الصعبة فى بلدهم، الحياة المعقدة فى مصر لعدة أسباب. ويقول نذير الميسر، لاجئ سودانى أربعيني، يسكن مع زوجته وبنتيه فى شقة بالدور الأرضى فى بيت متهالك بمنطقة أرض اللواء: «التواصل فى مصر سهل عن أى دولة أخرى، كما أنها بلد جارة وقريبة، بالإضافة إلى انتشار السودانيين فيها.. أعرف الكثيرين هنا، ونكون مجموعات بأعداد كبيرة فى عين شمس وأرض اللواء والمعادى ولا أعانى من الغربة إطلاقا».

العنصرية حاضرة والثقافة عائبة 
لا يسلم «نذير» من مواقف العنصرية، التى يمارسها عليه بعض المصريين فى الشوارع أو المواصلات. ويقول: «كل مكان فيه الجيد والسيئ.. وهكذا مصر، هناك من هو محترم ويتقبلك ويرحب بك، وهناك من يسخر من لون بشرتك».. ويضيف وهو يشير إلى بشرته: «هذ اللون يسبب لى كثيرا من المتاعب، نتيجة السخرية وغيرها، لا أعرف لماذا لا يتقبل الجميع بعضه؟، الثقافة غائبة عن كثيرين». 

ويعيب على التواصل بين المصريين بقوله: «الوضع هنا مختلف عن السودان، الشعب المصرى منطوٍ على نفسه، لا توجد زيارات متبادلة ولا خلافه.. الكل فى حالة.. لا أحد يدخل عند أحد، وهذا عكس السودان، فالجميع يذهب عند بعضه، وهذا اختيار الشعب، لكن أفضل وضع الاجتماعيات أكثر».

ويواجه السودانيون فى مصر العنصرية بصور مختلفة وقد يتجاوز الأمر المصطلحات العنصرية إلى الضرب. ويقول الميسر: «نتعرض لمعاكسات لفظية من بعض الشباب المنفلت الذى يوجه لنا شتائم منها مناداتنا بـ يا (سمارة)، أو (شيكولاتة)، وما إلى ذلك من مصطلحات، وقد يتطور الموقف إلى الاعتداء علينا، وحين نلجأ إلى الشرطة لا نحصل على حقوقنا».

يؤكد سليمان سري، المسئول الإعلامى للتحالف العربى من أجل دعم السودان، أن مفوضية اللاجئين لا تقدم المساعدات الواجبة لأبناء بلده الفارين من جحيم الحرب والاقتتال القبلى والسياسي. ويضيف: « لا يتلقى القادم من السودان إلى هنا كلاجئ أية معونات، يترك وحيدًا للبحث عن سكن وفرصة عمل، ورغم أن واجب المفوضية توفير إقامة وحماية له، فإن ذلك لا يحدث، نحمل بطاقات من الهيئة ولا تفيدنا، لا يوجد راتب شهري ولا خدمات علاجية ولا أى شيء، ولولا وجود بعض الإخوة السودانيين الذين يساعدون كل من يأتى إلى هنا، لكان مصيرنا الشوارع». 

ويشير إلى أن قوانين المفوضية تمنع عمل اللاجئين، متعجبًا: «كيف نعيش، ونحن ممنوعون من العمل، وفى ذات الوقت لا نتقاضى الـ ٢٠٠ دولار الشهرية التى يقولون عليها، هل جاءوا بنا من موت إلى موت؟»، منبهًا إلى أن المفوضية قد تمنح مبلغا ماليا يتراوح بين ٤٠٠ – ٨٠٠ جنيه شهريًا للمرضى والأطفال، «لكن ماذا يفعل ذلك الرقم لأسرة مثلًا مكونة من أب وأم وثلاثة أبناء». 

وتقول هيئة مفوضية اللاجئين عن المساعدات التى تقدمها: «عندما يُضطر الأفراد إلى الفرار من منازلهم يغادرون من دون أن يحملوا معهم سوى الأساسيات، ويخسرون أيضًا قدرتهم على جنى المال والإنفاق، نتدخل من أجل حمايتهم، وللحدّ من المخاطر التى يواجهونها والحفاظ على قدرتهم على الإنفاق». وترى المفوضية أن هذه المساعدات هدفها منع «استراتيجيات التكيّف المؤذية» على غرار الجنس من أجل البقاء وعمالة الأطفال وانفصال أفراد العائلات عن بعضهم والزواج القسري.

روتين يعرقل تصاريح الإقامة 
وبخصوص مشاكل الإقامة، يوضح سري: «من شروط الحصول على تصاريح الإقامة فى مصر، أن يوجد مع اللاجئ أوراق تثبت مقر إقامته، وأن تكون الأوراق مسجلة لدى الشهر العقاري، وهذا مستحيل فى ظل رفض أصحاب الشقق أن يتم تسجيل عقود الإيجار، لأن ذلك سيفتح عليهم باب الضرائب وغير ذلك». 

ويتابع: «هذا الوضع والاضطرار إلى الإقامة بدون عقود رسمية يجعلنا عرضة للطرد، إلى جانب أن الموافقة الأمنية المطلوبة للحصول على تصاريح الإقامة شبه مستحيلة، مع الإجراءات الروتينية المعقدة والتعسفية، التى نواجهها فى مجمع التحرير وغيره من مقرات المصالح الحكومية المصرية، وهو ما يجعلنا نعيش فى دوامة، دون أن نحصل على التصاريح». 

ويؤدى عدم الحصول على تصاريح إقامة أن تلقى قوات الأمن القبض على بعضهم، بحسب ما يقول سري، موضحًا: «لا يعرف كثيرون من رجال الشرطة المصرية بطاقة مفوضية اللاجئين، والتى تعنى بالأساس توفير الأمن والحماية لنا، وبعض من يعرفها لا يعترف، ويضطر زملاؤنا إلى انتظار تدخل معارف لهم من أجل ضمانهم ومن ثم الإفراج عنهم». 

ويفترض أن تتولى المفوضية، وفق ما تنص عليه قوانينها، «حماية حقوق الفارين من منازلهم والحفاظ عليها وإعادة بناء حياتهم المدمرة، بجانب دعم حقهم فى العمل، والحقّ فى تنمية المهارات».

ويعيب سرى على العالم العربى عدم الاهتمام بالوضع فى السودان، «كان اسم التحالف الذى أنشأناه فى البداية (التحالف العربى من أجل دارفور) بعد أحداث الاضطرابات التى وقعت فيها، لكننا وجدنا أن القضية أكبر من دارفور، فجعلناه التحالف العربى من أجل السودان، ويتشارك معنا منظمات مدنية من ١٩ دولة مختلفة، لعل العرب يتحركون تجاه هذا البلد ويكسرون الصمت إزاء جرائم نظام البشير».

رواج تجارة العملة 
وبسبب الإجراءات المعقدة، سواء فى القوانين المصرية أو الدولية التى تمنع اللاجئين من التعامل مع التحويلات المالية القادمة من الخارج، تنتشر شبكات تجارة العملة. وعن ذلك يقول الشاب إسحاق موسى، بلا عمل: «لو أرسل لى أحد معارفى أو أقاربى مبلغ ٥٠ دولارا من الخارج مثلًا، لا يمكننى صرفها من البنوك أو حتى مؤسسات الصرافة الدولية، مثل ويسترن يونيون، مما يدفعنا إلى التحويل إلى تجار العملة بالاسم.. ويستلم الفرد منا بالبطاقة فقط، ورغم أن هذا وضع غير قانونى تمامًا، لكننا مضطرون إليه، وهو الوحيد الذى يمكننا من مواصلة الحياة فى ظل صعوبة الحصول على دخل فى مصر».

في قبضة الشرطة
وينوه «موسى» إلى أن جميع الجاليات الإفريقية من أصحاب اللسان غير العربي، أو العربى غير الواضح يعانون فى التواصل مع المصريين، «يتكلم السودانيون العربية، لكنها قد تكون غير مفهومة مع المصريين، ويكون الوضع أكثر تعقيدًا فى حالة الحديث باللغات المحلية الإفريقية سواء للقادمين من جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق وغيرها، مما يوقعنا فى مشاكل مع المجتمع والشرطة، وهذا الأمر يعانيه الصوماليون والإثيوبيون والإريتريون وغيرهم، فقط يلقى القبض عليهم وهم لا يفهمون لغة رجال الأمن، ولا يفهم رجال الأمن كذلك، مما يتسبب فى إطالة أمد بقائهم فى أقسام الشرطة».
  
ويشير إلى أن أحد معارفه جرى الاعتداء عليه، «لكن الشرطة رفضت تحرير محضر لمن اعتدوا عليه.. لأنهم مصريون.. لا نعيش فى أمان كامل، ومع ذلك الوضع أفضل من نيران الموت فى بلدي، كما أن احترام بعض المصريين وترحيبهم بنا يجعلنا نسامح ونواصل العيش».

حنين إلى الوطن 
لا ينسى حسن الأمين، العامل السودانى فى مقهى شعبى بمنطقة أرض اللواء أسرته فى السودان، التى اضطر إلى تركها، مخلفًا وراءه بلدا انقسم إلى دولتين (الشمال والجنوب)، لا يعلم حسن إن كان سيتمكن من العودة إلى الوطن مرة أخرى أم لا؟، «أحن إلى أهلى وبلدي، لكن الرجوع حاليًا صعب للغاية». 

جاء حسن إلى مصر قبل عامين، ولم يتمكن من العودة إطلاقًا. وظل خلال تلك الفترة يبحث عن فرصة عمل، لم يصل إليها فى المقهى الشعبى الذى سمح له بالاحتكاك الكبير بالمصريين. ويقول: «لم أحصل على تعليم، وبالتالى فرصى فى الحصول على عمل صعبة». 

يتحمل العامل السودانى عنصرية بعض الشباب والأطفال فى شوارع مصر، «بضايق لما حد بيتريق على لون بشرتي، بس باتحمل علشان الحياة تعدي، مينفعش أتخانق مع مصري، بجانب إن فيه مصريين كتير محترمين وبيحاولوا يحسسونا إننا مش فى غربة».

صاحب المقهى التى يعمل لديها «حسن»، يدعى عثمان رزاق، ترك بلده فى نفس الظروف، «على اعتبار أن مصر بلد الأمن والدولة المجاورة لنا، اخترت مصر، ووجدت كل الاحترام والحب من الشعب المصرى فى معاملته له، ولم تؤثر الخلافات السياسية بين البلدين على علاقات الشعبين».

وتمكن «رزاق» من إنشاء المقهى بتشجيع من الأفارقة المتواجدين فى المنطقة، ويشير إلى أن المقهى يعد بمثابة «بيت الراحة للإثيوبيين والصوماليين والإريتريين الذين يحاولون الراحة وقضاء وقت مسلٍ بعد انقضاء أعمالهم، يأتون إلى هنا يلعبون الدومينو ويشاهدون مباريات كرة القدم التى يحبونها كثيرًا، ويحافظون على المكان بلا مشاكل، الجميع شجعنى قبل إنشاء المقهى ويفعلون ذلك الآن».

لا أعياد في الغربة
أحمد عبدالكريم شاب آخر أكمل عامه الخامس والعشرين قبل أيام، يجلس مع أقرانه على المقهى، وينوه إلى أنه جاء إلى مصر بهدف الإقامة السياحية فقط، ولكن اضطر أن يحول هذا العمل إلى إقامة دائمة بعد اضطراب الأوضاع بشكل كبير فى بلدته بشمال السودان.

يعمل أحمد حاليًا فى إحدى شركات البلاستيك، وترك أسرته لكسب الرزق ويحاول توفير بعض الأموال لإرسالها لهم شهريًا، «أحاول المساعدة قدر الإمكان، لو بيدى لأتيت به إلى مصر، على الأقل لن يجدوا رصاصا يلاحقهم دون سبب أو ذنب».

لا يهتم أحمد وزملاؤه من السودانيين بقدوم عيد الأضحى، «لا عيد للأغراب، نحن هنا فى ظروف صعبة، ولا يمكن أن أفرح أو أفعل نفس العادات التى كنت أقوم بها فى بلدي، عندنا نحتفل بهذا العيد ٧ أيام كاملة، كنا نقضيه فى فرح ومرح، وخروجات وتنزه، أما هنا فنلزم منازلنا، من لديه عمل يضطر إلى نزوله، ومن هو فى إجازة يقضيها فى البيت».

يتمنى أحمد أن يعى جميع المتناحرين من الفصائل المسلحة والسياسية فى السودان خطورة استمرار هذا الوضع على الأجيال القادمة، «بلدنا قد يصبح فارغًا من السكان خلال سنوات قليلة.. الجميع يهرب من الموت، رغم أن لدينا إمكانيات وموارد اقتصادية هائلة لو وزعت بشكل صحيح، وتم الاحتكام إلى العقل والمنطق لعشنا جميعا فى سلام ووضع اقتصادى جيد، بدلًا من الشتات والتفرق وحياة البؤس التى نلاقيها هنا فى مصر أو فى غيرها من الدول»، لأنه كما يقول المثل المصرى ( من خرج من داره، قل مقداره).