الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"النمنم" في كتاب جديد: سيد قطب محتال

وزير الثقافة حلمي
وزير الثقافة حلمي النمنم و سيد قطب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وزير الثقافة يكشف أسرارًا جديدة فى «بعثة سيد قطب.. الوثائق الرسمية».. مفكر الإرهاب يتلاعب بوزارة المعارف.. ويرفض رد أموال البعثة بعد ترك الوزارة

بات القارئ المصرى والعربى يئن تحت وقع الضربات المتكررة، والوقائع المتتالية للمؤرخين والمفكرين، الذين تتضارب تفسيراتهم وتأويلاتهم لوقائع التاريخ المختلفة، كل حسب توجهه وأيديولوجيته ورؤيته وتفسيره لما يحدث، ويجد الباحث عن التاريخ الحق نفسه فى دوامة لا نهاية لها من الشائعات والآراء الشاذة، كمن يبحث عن إبرة فى كوم قش، ولعل الجدل الذى أثاره مسلسل «الجماعة 2».. خير دليل على ذلك.
فقد توسط سيد قطب، قلب الهوجة التى حدثت وما زالت فصولها تتوالى على أصعدة عديدة، سياسيا وثقافيا وفكريا وإعلاميا، ورغم مرور ٥٢ عاما على إعدامه، إلا أن المتابعين يجدون من أفكاره التكفيرية وحياته الشخصية بكل تفاصيلها مادة خصبة تداعب خيالاتهم للتنقيب فيها، وسرد المزيد من أغوارها واكتشاف أسرارها وكواليسها، وفى كل حادثة إرهابية تقع فى أى دولة فى العالم يطل «قطب» برأسه ليخرج لنا لسانه؛ بأنه لم يشنق بعد وأن أبناءه الإرهابيين وأحفاده الجهلة قادرون على إحالة حياتنا إلى نار الله الموقدة، بسبب جهلهم وعمى بصيرتهم.
وزارة الثقافة، التى واجهت الأفكار الظلامية على مدار الأعوام الماضية، فطنت إلى أهمية أن تطرح حياة سيد قطب، مفكر الإرهاب وأباه الروحي، على المشاع من خلال الوثائق الرسمية التى تحتويها دار الوثائق القومية، وهى الوثائق التى يمكن أن تصبح بمثابة عصا موسى التى تتلقف ثعابين حواة الجماعة الإرهابية وتحيلها إلى لا شيء، فلا مجال بحال من الأحوال للتشكيك فى صحة الوثائق الرسمية أو أى من المعلومات التى تحتويها، فإذا تحدثت الوثيقة صمت الجميع.

الكاتب الكبير حلمى النمنم، وزير الثقافة؛ والمؤرخ المهتم بالقضايا التاريخية والسياسية والإسلامية، تصدى لكتابة تقديم ودراسة الكتاب الذى سيكون له دوى كبير خلال الفترة المقبلة، بعد إصداره والذى حمل عنوان «بعثة سيد قطب.. الوثائق الرسمية»، وقد حصلنا على نسخة من هذا الكتاب المهم، الذى سيطرح فى الأسواق خلال الأيام المقبلة، حاملا بين دفتيه عشرات الوثائق التى تنشر لأول مرة، والتى تنفرد «البوابة» بنشر جانب منها خلال هذا الملف.
لم يقف «النمنم» عند مجرد عرض الوثائق، وتناول ما جاء بها فقط، وإنما قدم قراءة معمقة حول سيد قطب، أفكاره وحياته وبعثته للخارج وسلوكه الشخصى المعوج، وعلاقته بأبناء جيله من المفكرين والكتاب والخلاف الذى حدث بينه وبين الضباط الأحرار، كما استغل الكاتب هذه الوثائق لينفذ من خلالها بالنقد والدراسة لقضايا الإرهاب وعلاقة «قطب» بالعديد من التنظيمات القديمة والحديثة، ودوافع ومبررات الإرهاب عبر العصور، وهو ما منح الكتاب بعدا جديدا يضاف إلى ما يحمله من أهمية.

الجمع بين المتناقضات
بدأ «النمنم» تقديم الكتاب بنبذة سريعة عن حياة سيد قطب، الذى ولد فى قرية موشا، بأسيوط، عام ١٩٠٦، وحفظ القرآن فى كتاب القرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية، ليلتحق بالمدرسة الأميرية فى القاهرة، التى ظل مقيما بها يكتب المقالات فى بعض الصحف مع كتابته الشعر، حيث أصدر ديوانين لم يحققا له النجاح المتوقع، نظرا لأن الساحة الشعرية كانت تذخر بالعديد من الشعراء البارزين، فاتجه لكتابة الرواية، وأصدر روايته الأولى «المدينة المسحورة»، وجاءت ضعيفة فنيا ومفككة على نحو ما رأى الدكتور على شلش، وأتبعها برواية «أشواك» إلا أنه لم يكمل فى هذا المجال، واتجه إلى الدراسات الأدبية والنقدية، وفى الأربعينيات تولى رئاسة تحرير مجلة «التاج المصري»، لسان حال المحفل الماسونى الأعظم، وفى الوقت نفسه اتجه إلى الكتابات الإسلامية، بمنطق راديكالى يجمع بين أفكار التشيع والخوارج، رغم أنهما نقيضان فى التاريخ الإسلامى وفى الفكر أيضا، فأخذ من التشيع العداء والرفض الشيعي، لعدد من الصحابة الكبار، مثل معاوية بن أبى سفيان والأمويين عموما، وأخذ من الخوارج تكفير الآخرين، خصوصا من المسلمين والخروج عليهم بالقتال.

الجهل والفقر بريئان من الإرهاب
وفى محاولة لاستخلاص الدروس من حالة سيد قطب، أكد المؤلف أن «سيد» كان حالة خاصة فى مجال الفكر المتطرف والمتشدد، مشيرا إلى ضعف وفساد من يحاولون إيجاد أعذار وتبريرات له، ومنحه قدرا من المشروعية، لأن الفقر لم يكن يوما من المبررات، خاصة أن أمراء الإرهاب وقادته من الأثرياء، مثل أسامة بن لادن والذى قدرت ثروته فى نهاية الثمانينيات بحوالى ٣٠٠ مليون دولار، كما أن سيد قطب نفسه لم يكن فقيرا، فقد وصل راتبه عام ١٩٤٨، إلى ٣٣ جنيها، وفى عام ١٩٥٢ وصل راتبه الشهرى إلى ٤٨،٥، وهو رقم يضعه فى خانة كبار الموظفين بالدولة، بجانب ما يدره عليه عمله بالصحافة، وهو ما مكنه من امتلاك بيت فى ضاحية حلوان، وعشة فى رأس البر، يقضى بها المصيف، تماثل أشهر الشاليهات حاليا. 
على الجانب الآخر، بدأ طه حسين، عميد الأدب العربي، حياته فقيرا وكثيرا ما بات جائعا، إبان دراسته فى الأزهر، وكذلك كان حال شاعر النيل حافظ إبراهيم وأم كلثوم التى جابت الموالد، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وعباس العقاد وكانت بدايتهم جميعا تدعو للتعاطف معهم. 
كما رفض المؤلف أن يكون الجهل سببا فى وقوع الشخص ضحية الإرهاب، مشيرا إلى أن أيمن الظواهري، قائد تنظيم القاعدة فى وقت من الأوقات، تخرج فى كلية طب القصر العيني، وكان يجمع زملاءه فى مستشفى أحمد ماهر ليلا ليلقى عليهم بلغة إنجليزية رصينة بعض مقاطع مسرحيات شكسبير، وكأنه يمثلها على خشبة المسرح.
ووصل بالمؤلف إلى أن يستشهد بالفنانين المصريين الذين لحقوا بالجماعة الإرهابية، وأحدهما يواصل التحريض على إحدى الفضائيات من تركيا، فى إشارة إلى محمد شومان وهشام عبدالله، وكذلك ألمح إلى أن المطرب اللبنانى فضل شاكر، الذى قدم عددا من الكليبات، التحق بأحد التنظيمات المتشددة وحمل السلاح لإرهاب الآخرين.

حالة فريدة
يرى صاحب «حسن البنا الذى لا نعرفه»، أن بعثة سيد قطب إلى أمريكا والتى بدأت عام ١٩٤٨ واستمرت حتى أغسطس من عام ١٩٥٠، حالة خاصة لا مثيل لها منذ عرفت مصر نظام البعثات التعليمية فى عهد محمد على باشا، فى أوائل القرن التاسع عشر، وأن هذه البعثة أثارت من اللغط والشكوك والجدل ما جعلها حالة فريدة، لم يسبق لها مثيل، سواء فى ملابسات حصوله عليها أو فى الآثار التى ترتبت على هذه الخطوة التى كانت سببا مباشرا فى تنصيبه أميرا لمعظم التنظيمات الإرهابية، وكبيرا لمنظرى الفكر التكفيرى فى العالم.
وإذا نظرنا إلى نماذج العلماء المبتعثين للدراسة فى الخارج سنجد أن علاقتهم بالدول التى تعلموا فيها لم تنقطع بعد عودتهم إلى مصر، فمنهم من ظل على تواصل مع الغرب مثل الشيخ مصطفى عبدالرازق ود. طه حسين ود. زكى نجيب محمود ود. لويس عوض وغيرهم، ومنهم من لم يحالفه الحظ فى البعثات ومع ذلك حرصوا على التواصل مع المنتديات العلمية والفكرية الغربية، لمتابعة سير الحياة الفكرية والثقافية بها ومنهم د. عبدالرحمن بدوى ود. فؤاد زكريا ود. إمام عبدالفتاح.
تغيير شخصية المبعوث إلى الخارج للأفضل كان الظاهرة الأبرز على مدار التاريخ، منذ رفاعة رافع الطهطاوى الذى تزعم حركة الترجمة فى فترة من الفترات الأولى من عهد محمد علي، وحتى الذى فشلوا فى نيل الدرجة العلمية ساهمت البعثات فى صقل مواهبهم وتكوين شخصياتهم نحو مزيد من الانفتاح والتحرر والانطلاق مثل توفيق الحكيم ود. عثمان أمين، صاحب الدراسات المهمة عن ديكارت والفلسفة الروائية.

طه حسين وأمير الإرهاب
وقد أجرى مؤلف «طه حسين والصهيونية»، مقارنة بين تأثير بعثة عميد الأدب العربى طه حسين، وأمير الفكر التكفيرى سيد قطب، مؤكدا أن طه حسين لم يكمل دراسته بسبب الأزمة المالية الطاحنة، التى مرت بمصر إبان الحرب العالمية الأولى وعاد محزونا عام ١٩١٥، بعد قضاء عشرة أشهر قضاها فى باريس، فإذا به يكتب عدة مقالات بليغة فى جريدة السفور تكشف حجم التغيير الثقافى والإنساني، الذى أدركه فى عاصمة النور، على الجانب الآخر عاد سيد قطب بكتاب يلعن فيه كل ما شاهده فى الغرب الكافر، كما ذكر وحمل عنوان «أمريكا التى رأيت».

نظرة تشاؤمية
وانتقد «النمنم» هذه النظرة التشاؤمية لسيد قطب، مشيرا إلى أنه فى أمريكا لم يدخل دار أوبرا، ولم يشاهد فيلما ولم يقرأ كتابا أو مجلة أو يزر مكتبة الكونجرس باعتبارها أضخم مكتبة وقتها، وإنما رفع راية التكفير فى مواجهة الفكر المادى الأمريكي، على عكس عدد من الباحثين المصريين والعرب، الذين سافروا أمريكا ولعبوا دورا مهما فى تأسيس بعض هذه المراكز العلمية والبحثية فى الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، إبان تشكيل ملامح الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، التى ورثت فيما بعد الدور البريطانى فى المنطقة.
لغز البعثة
على حسب رؤية وأيديولوجية كل تيار ومفكر قام العديد من المثقفين بمحاولة إيجاد تفسير للبعثة التى ابتعثها «قطب» لأمريكا، فقد قدم محمد قطب، شقيق سيد الأصغر، تفسيرا غريبا يتمثل فى أن الملك فاروق أصدر أمرا مليا باعتقال سيد بعد عدد من المقالات النارية، التى هاجم فيها الملك والحاشية، إلا أن الملك حاول إصلاح هذا الخطأ، بعد أن أصدر الأمر، ومن هنا جاءت فكرة البعثة كحل للمشكلة التى وقعت فيها السرايا، ومن هنا يتأكد الحديث حول هذه البعثة اللغز، وكيف حصل عليها «سيد»، وقد دخل عامه الـ٤٢ وهو سن كبيرة على البعثات، التى كان يحصل عليها الشباب اليافعون، حتى إذا ما عادوا يمكن الاستفادة مما درسوه بالخارج.

تجنيد قطب
أما الدكتور صلاح الخالدي، المحسوب الأستاذ الجامعى الأردنى المحسوب على جماعة الإخوان وأشد المعجبين بأكفار قطب، فقد أسس رؤاه حول البعثة على أن الحكومة ضاقت ذرعا بانتقادات سيد قطب، ومن ثم ابتدعت البعثة كحل يمكن بها أن تبعده عن القاهرة، وتستريح مما يحدثه من صداع لها بمواقفه ومقالاته، وعندما لم تجد الحكومة طريقة تعتقل بها «سيد» إذا بها تلجأ لهذه الفكرة علها تأخذ هدنة من إزعاجه لها، ولم يتوقف خيال «الخالدي» عند هذا الأمر، وإنما انطلق فى رسم المزيد منها بأن البعثة كانت طريقة لتجنيد «قطب» ليكون أحد عملاء أمريكا فى المنطقة، وقد رسموا له الخطط لإفساده فكريا ونفسيا، رغم أن «سيد» لم يضبط فى يوم ما متلبسا بمقال يهاجم فيه الملك أو ينتقد حاشيته وسدنتهن، كما أنه لم يكن قبل البعثة مفكرا بارزا كما يصور البعض، وإنما كان أحد كومبارس الصف الثانى أو الثالث، ولم تكن له البطولة فى المشهد الثقافى، وإلا فكيف نقيم دور الدكتور أحمد لطفى السيد أو محمد حسين هيكل أو العقاد؟ ومع ذلك كانت هناك الكثير من الأقلام التى تهاجم الملك بضراوة، ولم يتعرض لها أحد مثل إحسان عبدالقدوس الذى شن حملة ضارية فى روزاليوسف على الملك بسبب شحنة الأسلحة الفاسدة، وأحيل الملف كله للتحقيق، ولم يتعرض للاضطهاد أو يتم نفيه أو إغلاق المجلة.
بحث فنى
بينما تحل الوثائق هذا اللغز، بأن سيد قطب كان ثالث ثلاثة حصلوا على المنحة، وسافروا مع بعض مع الدكتور عباس عمار، الأستاذ المساعد بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، والمنتدب على وظيفة مساعد المراقب العام للبحوث الفنية والمشروعات، ومحمد عبدالسلام، مدير قسم التوجيه التعليمى والمهنى بالوزارة، وجاء ذلك بعد المذكرة المرفوعة من المستشار الفنى بالوزارة إسماعيل القباني، إلى وزير المعارف، الدكتور عبدالرازق السنهوري، للموافقة على البعثة التى تهدف لإعادة تنظيم المراقبة العامة للبحوث الفنية والمشروعات بالوزارة، لإعداد طائفة من الخبراء المتخصصين فى البحث الفنى فى مسائل التعليم كل فى ناحية معينة، وهو يشبه ما تفعله كليات التربية فى الجامعات المصرية لإعداد معلمى التربية والتعليم من غير المتخصصين فى التربية، حيث يحصلون على دراسات تأهيلية فى تلك الكليات، وهى حقائق تنسف كل ادعاءات المتأسلمين الذين نسجوا من وحى خيالاتهم الكثير من الروايات الوهمية بأن أمريكا هى التى طلبته وهى التى رشحته.
وتوضح الوثائق أن هذه البعثات كانت نهج إسماعيل القباني، الذى تولى وزارة المعارف بعد ثورة يوليو، فى إطار تحديث ديوان العمل وتطوير العملية التعليمية بشكل كلى نحو المدرسة الأمريكية فى التربية، بعد أن ظل النظام التعليمى يعتمد على المدرستين الفرنسية والبريطانية. 
تحايل
بعثة سيد قطب لم تسر على الوجه الذى يتمناه، وإنما صادفتها بعض العقبات، وتشير الوثائق فيما تشير إلى أنه كان حريصا على أن ينال البعثة بأى شكل، فقد حرص على ألا تفوته، حتى لو مارس نوعا من أنواع التحايل على الوزارة التى يعمل بها، حيث رسب فى الكشف الطبي، وتبين ضعف نظره مع وجود تراكوما بالعين، وهو المرض الذى يحرمه من السفر؛ وهو ما قررته بالفعل اللجنة الطبية فى ١١ أكتوبر عام ١٩٤٧، «غير لائق لبعثة أمريكا، للتراكوما وضعف الإبصار»، واللافت أن التقرير الطبى توقف عند النظر فقط، ولم يتطرق إلى باقى أعضاء الجسم، وهو ما طرح العديد من علامات الاستفهام، هل تم الكشف على باقى أعضائه ولم تكتب النتيجة أم أن الكشف على العين أخرجه من اللياقة وبناء عليه توقفت اللجنة عن استكمال عملها باعتبار أن النتيجة باتت محسومة؟!
على مسئولية الوزارة
ورغم توقيع أحد زميليه فى الرحلة إقرارا بأن يسافر على مسئوليته، وأن يتحمل مسئولية العلاج على نفقته إذا اقتضى الأمر، إلا أنه لم يسلك نفس المسلك، وقرر أن يسافر على مسئولية الوزارة، فى لغز جديد يضاف إلى قائمة الألغاز التى اكتنفت البعثة المثيرة للجدل، ويبدو تسوية ما تمت فى هذا الإطار فنجد «قطب» يكتب إلى «القباني» فى ٢ فبراير ١٩٤٨، يرجو إعفاءه من شروط النجاح فى النظر، وتيسير السفر فى موعد مناسب قبل حلول الصيف إلى واشنطن، بعد أن استشار المتخصصين فى الرمد، لم يحددهم، وقرروا أنهم من البعيد تحسين الحالة لكن ليس من المنتظر أن تسوء، وبالفعل وافق القبانى والوزير من بعده بسبب ضيق الوقت، وتم أخذ موافقة لجنة البعثات على إعفائه من شرط القبول الطبى بالتمرير، وبالفعل وافق جميع أعضاء اللجنة ماعدا حامد بك العبد، ممثل وزارة الشئون الاجتماعية فى اللجنة، والذى أصر على أن يسجل رفضه مكتوبا.
ويرى «النمنم» أن ما قام به سيد قطب يعد محاولة للقفز على التقرير، وتجاوزه، لأنها لم تطالبه بتقديم الشهادة الطبية بشكل موثق، وأن حديثه أنه «استشار الرمديين» تعبير شديد العمومية ومفتوح ويحتمل الكثير من التأويلات والاحتمالات، وأن الخطوات البيروقراطية كان لديها متسع وحلول لإبطال عمل هذا الكشف الطبي.

مرض غامض
فى مارس عام ١٩٤٨، بدأ سيد قطب فى استخراج جواز سفره وكان استخراجه مسألة معقدة تقتضى طلبا رسميا من الجهة التى يعمل بها، وبعد استخراجه تقدم قطب بطلب جديد فى ٢٧ مايو عام ١٩٤٨، يطلب فيه التأجيل بسبب حالة صحية طارئة تمنعه من التعرض للجو الحار، ولم يوضح أيضا خلال طلبه طبيعة هذه الحالة الخاصة والطارئة، ومن هنا ارتأت الوزارة أن يسافر فى شهر سبتمبر بالباخرة، مع بداية العام الدراسى الجديد، ليصل أخيرا إلى أمريكا فى ٣ نوفمبر ١٩٤٨.
وكانت مدة البعثة ١٥ شهرا، تم زيادتها إلى ١٧ شهرا، بعد طلب من رئيس البعثة أن يتم تعويض «قطب» عن شهرين قضاهما فى مرضه بأمريكا، رغم أن الأوراق الرسمية لا تتحدث عن طبيعة المرض، خاصة أنه تعرض لكشف طبى قبل السفر، ولم يذكر من تحمل نفقات المرض، هل عولج مجانا أم على حسابه الخاص؟ أم تحملتها الجامعة؟، رغم أن الأوراق الرسمية دقيقة للغاية فى مثل هذه الأمور لدرجة أنها تسجل أمورا غاية فى البساطة، مثل فارق درجات تذاكر السفر من القطار إلى الطائرة، ولم يذكر عن طبيعة المرض، إلا أن رئيس البعثة يشير إلى أنه أثناء تفقده البعثة فى مارس ١٩٤٩ أجرى قطب عملية استئصال اللوز.
احتفاء مبالغ فيه
وثائق بعثة سيد قطب تثبت أن وزارة المعارف ربما كانت تلقى أملا كبيرا على سيد قطب فى العودة إلى مصر والارتقاء بالعملية التعليمية، ونقل خبراته التى اكتسبها فى أمريكا، ومن هنا كانت تتعامل معه باحتفاء كبير ومساندة لافتة وغير معتادة منها مع غيره، فقد صرفت له إدارة البعثة ذات مرة بدل ملابس بالخطأ وقيمتها ١٢٠ دولارا، وعند عودته يتقدم بطلب للوزارة للتغاضى عن المبلغ أو تقسيطه، إذا أصرت الوزارة على استرداده، إلا أن الوزارة تنزل على رغبته وتتنازل عن المبلغ كاملا.
ويشير المؤلف إلى أن هناك العديد من الوقائع التاريخية التى جرت مثل هذا الأمر، إلا أن النتيجة كانت مزيدا من الإخلاص واتساع الأفق من قبل الدارسين نحو الدولة، مثل الشيخ حسن العطار الذى توسم فى الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى خيرا، فرشحه للسفر مع البعثة التى سافرت فرنسا، ورشحه لمحمد على باشا ليؤم المبتعثين هناك، فإذا به يصبح أنبغهم، وهكذا كان أحمد لطفى السيد وعلوى السيد مع طه حسين، إلا أن سيد قطب كان بلا طموح دراسى أو معرفى، ولم تكن لديه رغبة فى التعلم، بل عاد أضيق أفقا أكثر مما ذهب، وصار أكثر تشنجا، تجاه العصر الحديث والحداثة كلها، رغم أن مصر لم تبخل عليه بل أنفقت عليه برحابة صدر، ولكنه لم يقدم لها إلا العنف والتخريب ومحاولة تدمير العديد من المواقع الحيوية والأهداف الاستراتيجية ونسف القناطر الخيرية وقتل المدنيين والعديد من الشخصيات العامة عبر التنظيمات الإرهابية التى كان أميرا عليها.
محاولة للتكسب
بالباخرة كانت عودة سيد قطب، نظرا لحالته الصحية التى كانت تمنعه من ركوب الطائرات، بل تفرض عليه أن يستريح عدة أيام فى مدينة يمر بها وهو ما حدث، حيث استجاب رئيس البعثة لطلبه، وجاءت الموافقة بناء على اتصال تليفونى مع وزير المعارف وقتها، وكان د. طه حسين، الذى وافق على الفور، بل طلب أن يمر ويزور «سيد» المراكز التربوية فى كل عاصمة من العواصم، التى يمر بها ومنها لندن وباريس وروما وجنيف، وذلك حتى يزداد خبرة ومعرفة، ويحول «سيد» هذا الأمر إلى محاولة لمزيد من التكسب والتربح من البعثة، حيث طلب زيادة بدل السفر المقرر له عن كل ليلة بهذه العواصم.
وقد تلبس «سيد» شخصية الموظف البيروقراطي، الذى يسعى إلى الحصول على أى مكسب من الحكومة بأى شكل، حتى لو كان بالتحايل وفى إطار خارج القانون، وإذا به يسخر القانون ويطوعه عبر النفاذ من ثغراته لنيل أى مكسب مادى مهما كان صغيرا أو كبيرا.
الفتى المدلل
ويطرح المؤلف تساؤلا عن الضرر من هذا الأمر، خاصة أن القانون والقواعد المنظمة لم تحترم منذ البداية ولو تم تطبيقها بحذافيرها لما سافر قطب من الأساس، ولما أعفى من شرط القبول الطبي، وهو أهم الشروط فى كل تعامل مع المواقع الحكومية فى مصر، وقد تطورت الأحداث التى خالفها «سيد» بعد الحصول على البعثة التى أقر قبل الحصول عليها بتاريخ ٦ أكتوبر عام ١٩٤٨، أنه يلتزم بأن يخدم الوزارة أو الجامعة التابع لها فى الوظيفة لمدة ٧ سنوات من عودته عقب انتهاء الدراسة، وأن يرد جميع ما صرفته عليه الحكومة بصفته عضوا فى البعثة إذا تركها من تلقاء نفسه، أو لم يقض المدة المتفق عليها فى التعهد، أو إذا فصل لأسباب تأديبية، وهو ما لم يحدث بعد ذلك، حيث عاد قطب عام ١٩٥٠، وتسلم عمله بالوزارة ولما اندلعت ثورة يوليو توسع فى الكتابة للصحف، وراح يهتف للواء محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وفى ١٨ أكتوبر عام ١٩٥٢ تقدم باستقالته من الوزارة وانقطع عن العمل منذ يومها، ولم تتخذ معه الوزارة الإجراءات المتبعة فى مثل هذه الأحوال، حيث قرر مجلس الوزراء إعفاءه من المبلغ.
قطب يوزع الكفر
وترصد الوثائق أن سيد قطب حصل على ٦٧٩ جنيها، فى الوقت الذى كان راتبه يبلغ ٤٨،٥ جنيه، وهو أحد كبار الموظفين بالجهاز الإدارى للدولة وقتها، وذلك دون جهد أو عمل وقبلها دون أن يستحرم الأمر على نفسه، فى الوقت الذى كان يوزع الكفر على الجميع ويكيل الاتهامات على خلق الله يمينا ويسارا، وكان موقف الحكومة غريبا، لأنها اتخذت موقفا سلبيا منه ولم تطالبه برد المبلغ، الذى استحله دون وازع من ضمير.
وهنا اختلفت الآراء فى طريقة تفكير الحكومة، خاصة أنه أعلن وقتها انضمامه إلى جماعة الإخوان، فهل كان هذا الأمر من باب مهادنة الجماعة التى استمرت إلى عدة أعوام قبل أن تنقلب عليهم وتخسف بهم الأرض بعد محاولة اغتيال الزعيم عبدالناصر فى الإسكندرية؟ أى أنها كانت تجامله وتراهن عليه، أم أنهم كانوا يدركون أنه لن يرد هذه الأصول فوفروا على أنفسهم المطالبات التى سوف تنتهى إلى لاشيء، أم أنهم أرادوا مكافأته على المواقف التى اتخذها سياسيا بعد اندلاع ثورة يوليو، أو أنهم قرروا الفراق بالمعروف ودون صخب تجنبا لاكتساب أعداء جديدة.
ويخلص «النمنم» إلى أننا أمام سيل من المجاملات الحكومية التى قوبل بها قطب منذ اللحظة التى قررت فيها الحكومة بعثه إلى أمريكا، وكانت المفاجأة فى أن سيد قطب، وبعد اندلاع الثورة لم يتورع عن اتهام الذين مدوا له يد العون وقاموا بكل هذه التسهيلات له للسفر واكتساب المعارف الجديدة بأبشع الاتهامات، بل وذكرهم بالاسم فى أحد مقالاته بمجلة الرسالة، مطالبا بمحاكمتهم واصفا إياه بالانتماء للعهد البائد وإفساد التعليم، وأنهم يمجدون فى عهد محمد على وأسرته، وعلى رأسهم رئيس البعثة الذى أغدق عليه العطايا، وكذلك إسماعيل القبانى وشفيق غربال، رغم ما لهما من فضل على تكوين الكثير من الأجيال التى أسست جيل الستينيات وهو الجيل الذهبى فى المعارف والآداب.
حملة ضارية
كما شن سيد قطب حملة ضارية على الإذاعة المصرية وقتها متهما القائمين عليها بالانحياز للملك، وبأنهم يذيعون أغنيات تمجد الملك، وأشار بالاسم إلى أن أم كلثوم شدت للملك، وأن محمد عبدالوهاب، سار على نهجها، وعندما فشلت مساعيه، إذا به ينقلب رأسا على عقب ليعض يد الضباط الأحرار، الذين قربوه من صناعة القرار، وقت أن كانت الأحزاب يتم التضييق عليها وإلغاؤها، فقد ظهر وجهه الحقيقى وراح يصفى حساباته مع أصدقاء الأمس ويحرض عليهم سواء كانوا مفكرين أو فنانين أو شعراء أو سياسيين، حيث ارتمى فى أحضان المرشد الثانى حسن الهضيبى وجماعته، إلى أن أسس تنظيمه الخاص فى عام ١٩٦٥ وهو ما عرف بمؤامرة سيد قطب، والذى كان يستهدف من خلاله اغتيال عبدالناصر ونوابه ورئيس الوزراء ورئيس الحربية ورئيس المخابرات وغيرهم.

دار الوثائق
يحق لنا بعد هذا الكتاب المهم، أن نطالب دار الوثائق القومية بأن تفتح خزائنها أمام الباحثين الجادين للكشف عن باقى كنوزها التى تتكتم عليها، للاستفادة منها والخروج بالعديد من الإصدارات التى يمكن أن تحسم الجدل فى الكثير من القضايا الجدلية، وأن تنفتح إدارة الدار على ما يطلبه الوسط الثقافى والفكري، وأقترح بأن تبدأ مرحلة الدار مرحلة جديدة لا تكتفى خلالها بالاستجابة للباحثين، الذين يرغبون فى الاستفادة مما تملكه الدار، وإنما تعتمد على دعوة كبار المثقفين والباحثين، وتكليفهم بإنتاج عدد من الإصدارات على طريقة الكتاب الذى بين أيدينا، ولكن فى مجالات الحياة اليومية المختلفة، وقد كان يجدر بدار الوثائق أن تتصدر الكثير من القضايا التى شغلت الرأى العام فى الفترة الماضية مثل منابع نهر النيل.