الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحضور القبطي المعاصر في الكنيسة والدولة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
(2) الأقباط والكنيسة سنوات المعاناة:
كان الأقباط والكنيسة يعانيان معاناة مزدوجة من إجحاف المحتل العثماني، ومن الانقطاع المعرفي مع الجذور الآبائية على مرتين، حين تحولوا من اليونانية - لغة التدوين والثقافة والطرح اللاهوتي - إلى القبطية "اللغة العامية والتداول اليومي"، في أعقاب الصدام الأكبر الذي شهده القرن السادس الميلادي في مجمع "خلقيدونية"، ولم يكن كله دينياً لاهوتياً، بل كان في بعضه صراعاً قوميّاً تحكمه جدلية العلاقة بين رؤى المستعمر والدول الواقعة تحت الاحتلال، فكان التحول أحد أشكال المقاومة السلبية، وجاء الانقطاع الثاني متدرجاً بالتحول من اللغة القبطية إلى اللغة العربية، والذي بدأ مع الدخول العربي في القرن السابع، ثم مع صدور قرار تعريب الدواوين الذي أصدره والي مصر "الوليد بن عبد الملك" سنة 706 ميلادية، ثم تزايد عندما أخمد "المأمون" - بعنف شديد - أكبر ثورة في البلاد، شملت الوجه البحري كله "ثورة البشموريين"، مما أدى إلى انزواء الأقباط ودخول كثيرين منهم في الإسلام، سنة 831 ميلادية، ليصل الأمر إلى ذروته مع حلول القرن الحادي عشر، عندما منع الحاكم بأمر الله استخدام اللغة القبطية في الطرق والمنازل، وأطلق العسس لتعقّب من يتكلمون بالقبطية حتى داخل البيوت، وكانت العقوبة قطع ألسنتهم. 
انعكس هذا بدوره على أداء الكنيسة وعلى واقعها، ولم يكن أمامها إلا الاعتصام بمنظومتها التراثية الطقسية، والعبادات التي كانت تنتقل من جيل إلى جيل بالتوارث، ولأن الكنيسة منظومة تراتبية "هيراركية" أبوية تحصّنت بالعزلة وبمنظومة الرهبنة الديرية، حيث المخزون الاستراتيجي لتراثها ولاهوتها، رغم التدهور الذي لحقها كمنتج للانعزال الفكري عن مصادرها التقليدية، فما كادت تترجم أدبياتها العقائدية واللاهوتية من اليونانية إلى القبطية، وتحاول أن تنتج رؤاها اللاهوتية بلغتها الجديدة، حتى وجدت نفسها تعيد الكرّة مجدداً للترجمة من القبطية الغاربة إلى العربية الوافدة، وتصطدم بالفوارق اللغوية والانتقال من اليونانية التي استطاعت أن تصيغ المصطلحات اللاهوتية بتدقيقاتها، وتعبِّر عن مضامينها العميقة، إلى لغة لم يتقنوها بعد، كان لهذا أثره في حالة الكمون والتراجع التي اجتاحت المشهد القبطي، وانعكست بدورها على العلاقات البينية داخل الكنيسة، بل وانعكس على العلاقات بينها وبين الكنائس الأخرى، فكان أن ازدادت الفجوة وتعمّق الصراع والعداء.
لم يكن حال الكنيسة مفارقاً لحال الوطن، كلاهما دخل في نفق الجمود والتراجع، أديرة مهدّمة وتكاد تكون خاوية، إلا من نفر قليلين يفتقرون إلى الثقافة والعلم ويعانون من شظف العيش والفاقة، ورعيّة بلا رعاة، حتى أن الكنيسة كانت تقوم برسامة بعض من عامة الناس لسد العجز المتواتر في الرعاة، كل إمكاناتهم ارتباط فطري وحنين متوارث للجذور وتسليم متواتر - يحتاج إلى ضبط - من الآباء، وما تسلّموه من طقوس وصلوات يحرصون على أدائها في رتابة، وفي أحايين كثيرة بلا استيعاب لمضامينها، وكانت - على الرغم من ذلك - الحبل السرّي الذي أبقى جنين الكنيسة على قيد الحياة.
كانت الصراعات تمور داخل أروقة الحكم في مصر، والمماليك يسعون إلى العودة مجدّداً وإنهاء الحكم العثماني، لكنهم فشلوا، عام 1524 ميلادية، فاتجهوا إلى السعي التفافاً للوصول إلى مراكز السلطة، فلا يقترب القرن السابع عشر من نهايته إلا ويتحقق لهم وجود فاعل في دولاب الحكم، خاصة بعد إنشاء منصب "شيخ البلد" ليتولاه أحدهم وذلك في عام 1617 ميلادية، وهو الحاكم الفعلي في مصر وقتها، وكان أبرزهم "علي بك الكبير" 1766 ميلادية.
كانت الثورة الحقيقية عندما انضم الأقباط إلى الفلاحين والعرب تحت قيادة شيخ العرب همام بن يوسف الهواري سنة 1769 ميلادية، والذي استطاع أن يعلن الصعيد - من المنيا إلى الشلال - جمهورية مستقلة تشهد لأول مرة توزيع الأراضي على المواطنين، واستطاع أن يطور شبكة الري بشكل انعكس على إنتاجية الأراضي الزراعية، ومن ثم تحسن أحوال المزارعين، وهي تجربة يرصدها "الجبرتي" ويحللها رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" - المقالة الخامسة - ويعقد مقارنة بينها وبين الثورة الفرنسية، وانتهت التجربة بعد أن استطاع علي بك الكبير، بقيادة مساعده محمد أبو الذهب، هزيمة قوات شيخ العرب همّام، بعد أن استمال ابن عم "همام" ليخترق صفوفه بالخيانة، لتعود الفوضى ومعها الاضطراب من جديد، ومن اللافت أن "أبو الدهب" نفسه - فيما بعد - يتآمر مع الدولة العثمانية التي وعدته بأن يكون له سلطان مصر حال تخلصه من علي بك الكبير، فيتواجه مع قواته ويهزمه في موقعة "الصالحية" ويأسره، وتعود مصر مجدداً إلى وصاية العثمانيين.
وفيما كانت الحقبة العثمانية تعاني من الصراعات والحركات الاستقلالية، كان الجانب الآخر من شواطئ المتوسط يشهد تحركات تستهدف مصر تأسيساً على صراعات القوى العظمى وقتها، وكانت فرنسا تسعى إلى تقويض النفوذ البريطاني من خلال احتلال مصر، وتستهدف تحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية بعد أن تسيطر على الشاطئ الجنوبي له، ومن ثم تقطع الطريق إلى الهند على انجلترا، في مرحلة التنافس الاستعماري القائم بين فرنسا وانجلترا للسيطرة على مناطق المواد الخام ومصادرها التي تضمن استمرار دوران المصانع ونجاح الثورة الصناعية، وضمان أسواق توفر استيعاباً لمنتجاتها، فكانت الحملة الفرنسية على مصر - التي تصل إلى شواطئ الإسكندرية في يوليو 1798 - بقيادة نابليون بونابرت.
ولقراءة التاريخ بقية..