الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الضريبة الانتقائية وهرم التأثير الصحي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في مقال منشور بمجلة الجمعية الأمريكية للصحة العامة، في شهر أبريل 2010م، تحت عنوان «إطار عمل للصحة العامة: هرم التأثير الصحي»، يمثل العالم الأمريكي توماس فريدن التأثير الصحي على شكل هرم، يتكون من خمسة مستويات: المستوى الخامس، في أعلى الهرم، وهو مستوى التوعية والتثقيف، أما المستوى التالي له مباشرة، أي المستوي الرابع، فيشمل التدخلات الإكلينيكية التشخيصية والعلاجية من دواء وجراحة. والمستوى الثالث، هو مستوى التدخلات الوقائية الصحية طويلة المدى، مثل التطعيم والمستوى الثاني، ويشمل السياسات والقوانين الصحية، أو ذات المردود الصحي، والمستوى الأول، والذي يمثل قاعدة الهرم، يكمن في مستوى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ويعتقد الكثيرون أن أعلى مستويين في الهرم الصحي، وهما التثقيف والعلاج الإكلينيكي الجراحي، يمثلان جوهر وروح الصحة العامة، ولكنهما في حقيقة الأمر من أقل التدخلات تأثيرا وفعالية، فعلى الرغم من أهمية التثقيف الصحي في تغيير سلوكيات الأفراد وأنماط حياتهم، إلا أن تأثيره محدود في رفع مستوى الصحة العامة. فالجهود التي بذلت في التحذير من الإفراط في الأكل والتشجيع على زيادة الحركة كلها باءت بالفشل في الحد من انتشار السمنة، وللتدليل على ذلك، يكفي الإشارة إلى أن عدد المصابين بالسمنة في الولايات المتحدة الأمريكية قد تضاعف من 15% عام 1980م إلى 33% في عام 2006م، أي ما يبلغ 72 مليونا، علما أن معظم هؤلاء قدمت لهم نصائح لخفض الوزن من متخصصين، وذات الملاحظة تصدق على مستوى التدخلات التشخيصية والعلاجية، من دواء وجراحة، فعلى الرغم من دور هذه التدخلات التي لا ينكرها أحد، إلا أن فاعليتها على المدى البعيد محدودة، لأن الكثير من الأمراض، وخاصة المزمنة منها، تعمل في خفاء سنوات عديدة قبل أن تظهر بصورتها المدمرة، وبعد أن يكون الإنسان قد فقد قدراً كبيراً من صحته. يضاف إلى ذلك أن طبيعة العلاج الدوائي والجراحي، غالبا ما تستهدف أعراض الأمراض لا مسبباتها، ويترتب عليها في الغالب العديد من الآثار الجانبية أو المضاعفات. 
أما المستوى الثالث، مستوى التدخلات الوقائية الصحية طويلة المدى، مثل التطعيم، فهو أفضل حالاً من سابقيه، ففي بداية الخمسينات من القرن الماضي، وصلت حالات الإصابة بمرض شلل الأطفال إلى قرابة الستين ألف حالة سنويا، وبعد تطبيق وانتشار تطعيم شلل الأطفال، بدأت تنخفض الحالات تدريجياً حتى تم القضاء على هذا المرض نهائيا حول العالم في بداية الستينيات، ومع ذلك فإن تحقيق هذه النتيجة تطلب تطعيم كل الأطفال دون استثناء، الأمر الذي يجعل اللجوء إلى هذا الخيار مكلفا نوعا ما.
وفي المستوى الثاني، يأتي فرض السياسات والقوانين التي تجعل الخيارات الصحية الأسهل والأكثر إتاحة، وهذا المستوى له أثر أكبر على المجتمع ككل، خلافا للتدخلات السابقة التي تتجه إلى كل فرد على حدة، ويكون ذلك بفرض قوانين الضرائب على التدخين وحظر إعلاناته وبيعه في الأماكن العامة وتغيير نظرة المجتمع إليه، وقد نجحت هذه القوانين في بعض الدول نجاحا كبيرا، ومنها أستراليا، التي انخفض فيها التدخين من 30% إلى أقل من 9%.
أما قاعدة الهرم، أي المستوى الأول، فتتمثل في تنمية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تخفيض نسبة الفقر وتحسين مناهج التعليم وتيسير سبل الحصول على الماء النظيف وتوفير الصرف الصحي. وتشكل هذه الإجراءات أقوى محددات الصحة في المجتمع على مستوى العالم، وهو ما أكدته دراسة منشورة في العام 2008م، في مجلة (New England Journal of Medicine)، وشملت 22 دولة أوروبية.
وهكذا، فإن هرم التأثير الصحي يؤكد لنا أن أكثر الوسائل فعالية في رفع مستوى الصحة العامة هو أن نجعل الخيار الصحي هو الخيار الأيسر والأكثر إتاحة، إضافة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فلا يكفي لعلاج السمنة مثلاً مجرد حث الناس على الرياضة وزيادة الحركة والإقلال من الأكل، بل ينبغي أن يصاحب ذلك إقرار بعض السياسات والقوانين، مثل فرض الضرائب على المشروبات الغازية والمحلاة بالسكر وكل الأغذية غير الصحية، ثم توجيه العوائد المادية من هذه الضرائب لدعم الأغذية الصحية، بحيث يصبح البديل الصحي أقل تكلفة من الغذاء غير الصحي. وإذا أعيد تصميم المجتمعات لتشجيع الأفراد على المشي واستخدام الدراجة وغيرها، وأتيح لهم أماكن لممارسة الأنشطة الرياضية، فإن لذلك مردوده في تشجيع الإنسان على زيادة حركته والاستمتاع بها. 
وتعليقا على موضوع «هرم التأثير الصحي»، وفي برنامجه التليفزيوني «ومحياي»، يقول الطبيب السعودي وليد فتيحي إن أعظم عقبة في إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات لا تكمن في محدودية الميزانية، مؤكداً أن القطاع الصحي قادر على تشكيل شراكات لتحقيق التغيير المنشود، بشرط تواجد ودعم الإرادة السياسية والسياسات. لذلك، بدأت بعض الدول في تطبيق مفهوم «الصحة في جميع القوانين والسياسات»، والذي تدعو إليه منظمة الصحة العالمية. ووفقاً لهذا المفهوم، لا يتم إقرار أي قانون أو أي سياسة في الدولة دون موافقة مسؤولي الصحة عليها، ودراسة تأثير هذه السياسات والقرارات على صحة الإنسان الجسدية والعقلية والنفسية. 
ومنظورا للأمور على هذا النحو، يمكن القول أن الضريبة الانتقائية (Selective Tax) تمثل أحد أهم الوسائل لرفع مستوى الصحة العامة. والضريبة الانتقائية – وكما هو واضح من اسمها – تفرض لمحاربة استهلاك سلع معينة أو التقليل من استهلاك المواد الضارة، مثل التبغ والكحول والمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة والمشروبات عالية السكر. وتشير التجارب الدولية إلى أن فرض هذه الضريبة يخفض بالفعل استهلاك الطبقات الأقل دخلاً (وهم الفئة الأكبر) للمنتجات الضارة بعد ارتفاع أسعارها، كما أن ارتفاع تكاليف السلع الضارة يوجه الشركات المنتجة إلى إيجاد بدائل لها، لتتجنب تسديد الضرائب على منتجاتها، وتحقيقا لهذه الأهداف، عمدت دول مجلس التعاون الخليجي مؤخرا إلى إقرار هذا النوع من الضرائب، حيث كانت المملكة العربية السعودية أولى دول المجلس تطبيقا لها في شهر ربيع الثاني من العام الهجري الحالي، وفي الحادي والعشرين من أغسطس الحالي، أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة المرسوم بقانون اتحادي رقم 7 لسنة 2017م بشأن الضريبة الانتقائية على بعض السلع. وطبقا لهذا القانون، تبلغ قيمة الضريبة على التبغ ومشروبات الطاقة 100%، وتبلغ 50% على المشروبات الغازية، ومنعا للتحايل وحتى يكون المستهلك على بينة من سعر السلعة، يوجب القانون أن تكون الأسعار المعلنة للسلع الانتقائية عند بيعها شاملة للضريبة.
وتحقيقاً للأهداف آنفة الذكر، ورغبة في بناء مجتمع آمن وصحي، ندعو المشرع المصري إلى تطبيق الضريبة الانتقائية وتوسيع نطاق تطبيقها بحيث تسري على كافة السلع الضارة بصحة الأفراد وتلك التي تؤثر على جودة البيئة، مثل التبغ والكحول والمياه الغازية ومشروبات الطاقة والبطاطس الشيبسي والله من وراء القصد.