الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"الفساد والصين".. ثنائي تدمير "الحديد الوطني"

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نحن أمام قضية، من فرط خطورتها، تحرض كل من سمع عنها أو رأى جزءًا من تفاصيلها، أن يصرخ بأعلى صوت فى وجه أى مسئول مهما علا شأنه، ومهما كان موقعه فى دوائر السلطة، وقطعًا سيصرخ معه كل من يدرك حجم الكارثة، فالفوضى وصلت للصناعات الثقيلة، والسبب «وزارة التنمية المحلية» التى هيأت المناخ أمام الفهلوية، ومحترفى التربح لإقامة مصانع عشوائية، عبر تغاضى مسئوليها عن تطبيق القانون وعدم إحكامها الرقابة على المنشآت التى تقام علنًا. 
فبحسب تقديرات المراكز البحثية، وصل حجم الاقتصاد السرى أو الموازى أو ما يطلق عليه مجازًا «العشوائي» نحو 2 تريليون جنيه، هذا الاقتصاد تجاوز الأنشطة التقليدية المعروفة فى مجتمعاتنا مثل الصناعات البدائية واليدوية أو الحرف المتوارثة، وامتد إلى مجالات تصنيع توصف بـ «الاستراتيجية»، وهى الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها، صناعة الحديد والصلب «البليت»، التى تنامت وانتشرت، منتجاتها فى الأسواق بدون ضابط أو رابط، فالمصانع نشأت بدون اتباع للإجراءات الرسمية وفى غيبة تامة عن المؤسسات المعنية بإصدار تراخيص الصناعات الثقيلة وتحديد اشتراطات التصنيع. 
الكارثة أن هذه المصانع ليس بها أي معايير لسلامة الجودة، ولا تخضع للضرائب، على الرغم من تمتع تلك الأنشطة بالخدمات الأساسية مثل «الكهرباء- المياه- الطرق» والاستفادة منها عبر تبادل المنافع بين موظفى التنمية المحلية والمستفيدين من حالة الفوضى. 
الرقابة الإدارية تغلق 23 مصنعًا غير مؤهل
لجنة من خبراء وممثلى جهات حكومية تفتش على مصانع «الحديد المدرفل» 
المركز الوطنى لاستخدامات أراضى الدولة: 750 مصنعًا عشوائيًا منتشرة فى ربوع مصر
أصحاب المصانع يستغلون علاقتهم بمسئولى المحليات لإنشاء مصانع بتصاريح «مخازن»
كان من الصعب معرفة طبيعة وماهية منتجات الحديد العشوائية فى الأسواق، وكان من المستحيل الوصول إلى حقيقة انهيار العقارات والمبانى التى تستخدم الخامات «المضروبة» لولا تدخل الرقابة الإدارية، التى ألقت حجرا فى بحيرة من المياه الراكدة، كشفت به حجم العبث الذى يجتاح مجالات التصنيع، وأزاحت النقاب عن فساد الضمائر ففى أروقة الجهاز الإدارى للدولة، خاصة أن المصانع التى تنتج الحديد الرديء لا يوجد لها تصنيف رسمى على خريطة الصناعة المصرية، كما لا يوجد لها تراخيص أو أى أدلة تشى بصلاحية منتجاتها ومدى مطابقتها للمواصفات القياسية، فأصحابها يستخدمون أسماء تجارية براقة لتسويق منتجاتهم بوضع علامات تجارية لمصانع وشركات توحى بأنها كبرى. 
المصانع العشوائية المتناثرة فى ربوع مصر، يقترب عددها من الـ ٧٥٠ مصنعا، بحسب تقديرات المركز الوطنى لاستخدامات أراضى الدولة، هذا العدد المخيف يحوى فى أحشائه قائمة تضم مصانع لإنتاج الحديد والصلب، إلا أن هذا الرقم، رغم بشاعته ورغم تأثيراته السلبية على الاقتصاد والاستثمار من ناحية، والإساءة لسمعة الصناعة المحلية من ناحية أخرى، لا يزعج المسئولين فى التنمية المحلية، ولا يحفزهم على القيام بأى دور لاستئصال هذا الورم الخبيث، الذى يهدد سمعة الصناعة الوطنية بفعل سياسة «شيلنى وأشيلك»، خاصة إذا علمنا أن دورها لا يتوقف على توقيع الأوراق وكفى، ولكن دورها رقابى يتفاعل بشكل مباشر مع المواطن، وصحته وسلامته، وهناك جملة من الاشتراطات والقواعد الواجب توافرها فى حالات إنشاء المصانع، خاصة القائمة على إنتاج الصناعات الثقيلة، أبرزها موافقة هيئة التنمية الصناعية والمجلس الأعلى للطاقة، وهو مجلس مكون من رئيس مجلس الوزراء وزراء الكهرباء والبترول والاستثمار والتنمية المحلية. 
قضية مصانع الحديد العشوائية انفجرت فى وجوهنا جميعا، وطفت تفاصيلها على السطح، بصورة لافتة للانتباه، عندما تلقت الرقابة الإدارية معلومات جدية حول رواج منتجات الحديد والصلب فى الأسواق بأسماء تجارية مجهولة، على أثر التيقن من حقيقة المعلومات، شكلت فى الأسبوع الأول من شهر يوليو الماضي، لجنة رسمية مكونة من خبراء وممثلى عدة جهات حكومية «الهيئة العامة للتنمية الصناعية والرقابة الصناعية والمواصفات والجودة»، للتفتيش على المصانع المنتجة للحديد المدرفل.
داهمت اللجنة مواقع تلك المنشآت فى محافظات «القاهرة والإسكندرية والقليوبية والشرقية» وعددها ٢٣ مصنعًا، وبعد إجراء الفحص الفنى والإدارى ومراجعة كل الملفات المتعلقة بالبحث عن التراخيص وشروط الإنشاء والتشغيل، بمعرفة المتخصصين فى كل المجالات، انتهى تقرير أعمالها بقرارات صريحة لا يمكن القفز عليها، باعتبارها لا تقبل التأويل أو الجدل فى تفسيرها، جميعها جاء حاسما، لقطع الطريق أمام مبتكرى أساليب التحايل بالطرق الملتوية، على رأس تلك القرارات، غلق عدد هائل من تلك المصانع القائم نشاطها على إنتاج حديد الصلب «البليت»، لأنها أنشئت بدون اتباع الإجراءات القانونية والفنية المعمول بها فى مجالات الاستثمار، وبدون الحصول على تراخيص رسمية لمزاولة النشاط، فضلا عن أنها غير مؤهلة بالأساس فنيا وتكنولوجيا، لإنتاج هذا النوع من الصناعات الاستراتيجية الثقيلة.
القضية تتجاوز فى خطورتها أي أحاديث تقليدية، تتعلق بالمخالفات أو عدم الحصول على تراخيص، فالمنتجات تهدد سلامة المنشآت والمبانى وكل المشاريع الحيوية التى تستخدم الخامات غير المطابقة للمواصفات، إلى جانب تشويه سمعة الصناعة الوطنية.
المعلومات المحيطة بشأن العبث فى الصناعة والاقتصاد، تفيد أن أصحاب بعض المصانع، يستغلون علاقاتهم بمسئولى المحليات فى المحافظات المختلفة، لإنشاء مبان على مساحات شاسعة، باعتبارها مخازن تشوين خردة، وورش تقليدية لتقطيع الحديد وأعمال الخراطة وتشكيل المعادن، وغيرها من الحرف المنتشرة، وبعدها يتم الاستعانة بالفنيين القادمين من الصين، للدخول معهم فى شراكة، ويتبع ذلك استجلاب معدات «صهر خردة» لإنتاج الحديد من الخردة والمعادن وألواح الصاج، ومخلفات المبانى والمصانع، ثم تتحول الورش بقدرة قادر إلى مصانع، تقوم بترويج منتجاتها فى الأسواق.
صينيون يحولون الورش إلى مصانع لإنتاج «البليت»
ظاهرة انتشار المصانع العشوائية، بالمناطق المتاخمة للمدن الصناعية، وتراخى أجهزة الدولة عن تنفيذ القرارات الرسمية الصادرة بإغلاقها، أو تقنين أوضاعها، وعجزها عن فرض هيبة الدولة على العابثين بالقانون، تشير جميعها إلى الاساءة العمدية لسمعة الصناعة الوطنية، والخروج بها من دائرة المنافسة مع المنتجات المستوردة، فضلًا عن الإساءة للاستثمارات الجادة فى مجال الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها صناعة حديد الصلب «البليت»، وهو الأمر الذى حرض الأجهزة الرقابية على مداهمة مواقعها، لفحص أنشطتها والـتأكد من تقنين أوضاعها وحماية القرارات الصادرة بإنفاذ القانون.
تقارير أعمال اللجان، امتدت إلى غلق مصانع عشوائية أخرى، تنتج حديد الصلب، وجاءت قرارات الغلق لأسباب فنية وقانونية متنوعة، فأثناء مداهمة مصنع «شين جه «للمشغولات المعدنية، ومقره بجوار قرية الأسد قبل مدخل مدينة الإسكندرية، وهو مملوك لشخص صينى يدعى «جانج هوا»، تبين من التفتيش، وفق ما جاء فى تقرير اللجنة، أن المصنع ينتج عروق البليت، رغم أن نشاطه الأساسى يقوم على تصنيع المشغولات المعدنية، كما تبين من التفتيش أن التكنولوجيا المستخدمة غير ملائمة للإنتاج، فضلا عن أن المنتج ليس له مواصفات قياسية، لذلك انتهى قرار اللجنة إلى غلق المصنع لإنتاجه البليت بدون الحصول على رخصة.
تقارير اللجنة وإن كانت جادة وحاسمة ورادعة فى شكلها ومضمونها، إلا أن الواقع يثير المخاوف من عدم تفعيل القرارات الصادرة عنها، مرة لتغاضى مسئولى التنمية المحلية لقدرتهم على إيجاد المبررات الواهية للإبقاء على الأوضاع كما هي، خاصة إذا علمنا أن العبث أتاح الفرصة أمام أصحاب الورش الصغيرة للاستعانة بالصينيين فى إنتاج صناعات مؤثرة على المستويات كافة، حيث تضمن تقرير لجان التفتيش، مصنع نور السلام للدرفلة وسحب المعادن، والمستقبل الدولية للصناعات المعدنية ويمتلكه « تشين ماو تشون»، وبعد المعاينة والفحص، وجدت اللجان الفنية أن منتجات المصنع بدون مواصفات قياسية، وأن التكنولوجيا المستخدمة غير ملائمة لإنتاج هذا النوع من الصناعات، وقررت غلق المصنع بالكامل والتوقف التام عن الإنتاج.
التمساح للحديد والصلب، بطريق مصر إسكندرية الزراعى، يقوم نشاطه على تصنيع البليت وحديد التسليح وقطاعات الحديد، وجدت اللجنة أمورا لها العجب، التكنولوجيا ملائمة لإنتاج حديد التسليح وغير ملائمة لإنتاج البليت نتيجة لعدم وجود أفران ضغط لمعالجة المصهور، وانتهى قرار اللجنة إلى وقف نشاط المصنع لحين الانتهاء من التراخيص والحصول على الموافقات اللازمة.
كما أن اللجنة انتقلت إلى مصنع البرج لتشغيل وتشكيل المعادن، ويقوم بتصنيع قطع غيار خطوط الإنتاج ومعدات مصانع الأسمنت، طلبت اللجنة تعديل مسمى الإنتاج الوارد فى السجل والحصول على موافقة هيئة التنمية الصناعية إلى مسبوكات الحديد الزهر بأنواعه والاستنلس كقطع غيار خطوط الإنتاج ومعدات مصانع الأسمنت.
مصانع أخرى متخصصة فى إنتاج عروق الصلب،انتهى قرار اللجنة بإغلاقها بالكامل لأنها غير مؤهلة لإنتاج وتصنيع الحديد.
الوقائع تتلخص فى استهتار مسئولى التنمية المحلية بالقانون، وتغاضيهم عن التصدى لتنامى ظاهرة الصناعات العشوائية، التى أغرقت منتجاتها الأسواق، حتى باتت خطرا يهدد بنية الاقتصاد القومى.

«المحليات» تضرب بقرارات «الرقابة» عرض الحائط.. وشخصية نافذة تمنع إغلاق «المخالفة» فى الإسكندرية
«الشريف» يتجاهل مذكرة رسمية مدعومة بالوثائق.. ويلقى بالكرة فى ملعب «الإسكان»
القراءة الدقيقة لقرارات اللجان الفنية المشكلة من الرقابة الإدارية، تشير إلى أن التنمية المحلية تعيش فى واد غير الذى يعيش فيه المجتمع، فمسئولوها لم يغضوا الطرف، فقط عن مراقبة أنشطة التصنيع العشوائية فى نطاق محافظاتهم، لكنهم تورطوا فى تنامى تلك الأنشطة عبر حمايتها من الأجهزة الرقابية بمبررات وهمية أو الاكتفاء بتحرير محاضر روتينية لحماية أنفسهم لحظة المساءلة عند وقوع المخاطر.
قرارات إغلاق عدد من المصانع المنتجة للحديد لم تكن الأولى، بل سبقتها قرارات مماثلة صدرت من لجان حكومية رسمية، إلا أن وزارة التنمية المحلية تقاعست عن تنفيذها، أحد هذه القرارات صدر قبل شهور قليلة وتحديدا فى نهاية عام ٢٠١٦، عندما أصدر المهندس طارق قابيل وزير الصناعة والتجارة، القرار رقم ٨٣٧ لسنة ٢٠١٦، المعدل بالقرار الوزارى ١٠٢٠، بتشكيل لجنة فنية لمعاينة كل المصانع المنتجة للحديد المدرفل، للحد من نشاطات التصنيع العشوائية.
انتهت أعمال اللجنة المشكلة بعد القيام بالفحص الفنى، إلى إغلاق عدد من المصانع، بينهما مصنعان يحرضان على الوقوف أمامهما كثيرا، ليس فقط، لأن مخالفاتهما صارخة، إنما لما يدور فى الكواليس بشأنهما، فالمعلومات المتسربة حولهما تشير إلى تمتعهما بالحماية من شخصيات نافذة، ومؤثرة على صناعة القرار فى أروقة وزارة التنمية المحلية، تقوم هذه الشخصيات، بـ «الطرمخة» على كل القرارات الصادرة بإغلاقهما. المصنعان فى الإسكندرية ومنطقة برج العرب، صدر قراران بإغلاقهما لأنهما غير ملائمين لإنتاج الحديد والصلب، كما لا توجد إدارة للتحكم فى مواصفات جودة المنتج.
المصنعان واجهتهما، وفق تقرير اللجنة شخص يدعى «جاو» صينى الجنسية، وكلٌ منهما يحمل اسما تجاريا يختلف عن الآخر، وهما مصنع «الرضوان»، لإنتاج «أجسام المحابس والأكسات» ومصنع «شمال إفريقيا» لدرفلة وتشكيل المعادن، بما يعنى أن نشاطهما يدور فى إطار الورش بحسب النشاط المعلن، لكنهما يزاولان نشاطهما فى الصناعات الاستراتيجية الثقيلة، بدون اتباع الإجراءات الرسمية، مثل الحصول على تراخيص تصنيع حديد، باعتبار أن هذا النوع من الأنشطة كثيفة الطاقة، يحتاج لملاءة مالية للاستثمار، وخبرات فنية عالية وقدرة على توفير الطاقة المستخدمة فى الإنتاج، وهذا لن يحدث إلا بعد الحصول على موافقة مجلس الوزراء لتوفير القدرة الكهربائية، وهذا يتطلب، أيضًا، موافقة هيئة التنمية الصناعية المعنية بإصدار التراخيص وتحديد نوع المنتج.
ما نتج عن تقارير اللجان، سواء المشكلة بمعرفة الرقابة الإدارية، أو المشكلة من وزير الصناعة والتجارة، يفتح الباب واسعا أمام المخاوف من استمرار حالة الفوضى على المستويات كافة، كما يثير الكثير من الشكوك فى قدرة مسئولى التنمية المحلية على إنفاذ القانون، وتأدية مهامهم عملا بالقسم الدستورى الذى يؤدونه أثناء توليهم مناصبهم، فهؤلاء يتسترون قصدًا على المخالفات والجرائم الرامية لدهس هيبة الدولة، فضلا عن عدم إدراكهم تبعات وتداعيات رواج الصناعات العشوائية، والكوارث الناجمة عن تسرب المنتجات الرديئة وانتشارها فى الأسواق بصورة لو علمتم كارثية. 
اللافت للنظر فى هذا الشأن، هو إصرار المسئولين فى التنمية المحلية والجهاز التنفيذى لمحافظة الإسكندرية على الهروب من المسئولية بطرق، تثير الكثير من علامات الاستفهام، لأنهم تجاهلوا أمورًا، هى بالأساس من صميم وظائفهم، خاصة إذا علمنا أن الوزير هشام الشريف تلقى مذكرة تفصيلية مشفوعة بالوثائق تتضمن كل الوقائع المتعلقة بمصنعى برج العرب والإسكندرية، إلا أن الإفادات بشأنهما جاءت غامضة، فقد ألقى بالمسئولية على هيئة المجتمعات العمرانية، فيما يخص مصنع برج العرب، باعتبار أن الولاية عليه تتبع وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية، لكن يبقى السؤال.. ماذا فعل الوزير فيما يخص المصنع الآخر التابع لمحافظة الإسكندرية؟ ولماذا يتغاضى المسئولون عن ترسيخ هيبة الدولة وتفعيل القرارات الرسمية؟.. ولماذا لم يرسل الوزير أو مكتبه المذكرة المقدمة إلى زميله وزير الإسكان ؟..ألم يكن هذا نوعا من اللامبالاه لـ «تتويه» القضية فى دهاليز السعى وراء إخلاء المسئولية بإلقائها على الآخرين، دون الأخذ فى الاعتبار أن هذا النوع من القضايا يخص المجتمع والمتضررون سلكوا الطرق القانونية، ونبهوا وزير التنمية المحلية ومحافظ الإسكندرية من المخاطر، لكن دون جدوى، فتبدد صراخهم.