الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حـنـين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أحيانًا يأتيك شعور لا تعرفه ولا تفهمه، يتسلل إلى الأعماق، ويتجول فى سراديب النفس، يلتصق بالحنايا ويمتزج بالدم، تُرى هل هو الشجن؟ أم الحنين؟ أنا أراه الحنين الشجي.. آه من الشجن، بقدر ما هو مؤلم بقدر ما هو لذيذ، وبين تلك اللذة وذاك الألم فؤاد يعتصر ونفس تتأمل!!
دائمًا ما تمتلئ قلوبنا بالشوق والحنين، حنين لأحباب كان فراقهم قضاءً محتومًا، أو شوق لإنسان عزيز توارى تحت الثرى، أو حنين لأيام مضت وهيهات أن تعود! أو شوق لمكان عشنا فيه سنوات، ثم تركناه، فأوَجْعَنا البعدُ.. الشوق ملعون والحنين قاتل.
ألا يَحِنُّ أحدكم لأيام طفولته؟ أيام الطفولة تترك أثرها فى تكوين الإنسان الفكري، ففيها تتشكَّل معظم عاداته وتُغرس مبادئه وأفكاره التى تلاصقه طيلة حياته، حينما يخرج الطفل من بطن أمه، يكون صفحة بيضاء، ثم يكتب الدهر عليها ما يشاء ويمحو، كلنا نولد على الفطرة، وليتنا نظل عليها!!
ما أنقى الطفولة! حيث براءة الفكر، براءة المشاعر، براءة الذنب.. أين نحن الآن من جمال الطفولة وأسرارها؟! دائمًا بزاوية منا لا نزال نحمل براءة الطفولة ونقاءها، ولكننا نحن الكبار نتحكم فى مشاعرنا بوعي، وجمال الطفولة فى اللاوعى، الوعى قد يُفقد الأشياء براءتها، اللهم إلا إذا تحكمنا فيما لا نعي.. وهذا محال.
الأطفال أكثر حكمة منا، إنهم لا يفكرون فى المستقبل، هم فقط يفكرون فى لحظاتهم التى يعيشونها، يستثمرونها فى المرح واللهو، لا يؤجلون السعادة، أما نحن فينقضى عمرنا بين أمرين، إما نادمون على ما مضى أو مشغولون بما هو آت، إننا دائما لا نعيش، بل على أمل أن نعيش!! وليتنا نتعلم أن ما مضى فات، وأن المستقبل غيب، وأن لحظات السعادة لا تُمنح، وإنما تُقتنص.
كل الأشياء تمر بمرحلة الطفولة: الإنسان، الحيوان، النبات، الجماد، حتى الزمان كان طفلًا، أعتقد أنه وصل الآن إلى مرحلة الشيخوخة، واقترب من نهايته، ألا تشعر بذلك؟! حتى الأماكن التى اعتدناها، تكْبُر شيئًا فشيئًا وتفقد بكارتها، تتغير ملامحها وتعلوها تجاعيد الجحود والنكران وتصاب بالعمى فلم تَعُد ترانا، نحن من نتسبب لها فى ذلك عندما نخذلها، عندما نهجرها ونظن أنها لا تشعر، وفى الحقيقة عندما نرتبط بمكان فإنه هو الآخر يرتبط بنا ويتعلق، فيحن إلينا كما نَحِنُّ إليه، ويفتقدنا كما نفتقده.
هل يتذكر أحدكم مكانًا اعتاد عليه وقتما كان طفلًا؟! أنا أتذكر.. أتذكر مكانًا يأخذنى الحنين إليه، فأذهب وأجلس غارقًا فى ذكريات الصبا، أذهب إليه بعدما تجاوزت عَقْدَ عمرى الثالث، تُرى هل سيسعفنى الزمان، وأجلس فى المكان ذاته بعد أن أكون فى عقدى الخامس مثلًا لأتذكر أيامًا قضيتها فى عقدى الرابع؟! قد يسعفنى الزمان، ولكن هل سيسعفنى المكان؟! من الممكن ألا يسعفني، لأنه ربما يكون حينها قد مات! فيصبح أثرًا بعد عين، فأُوقِف الصحب، وأبكى رسمًا آياته قد خلت!!
وهل يتذكر أحدكم حب الطفولة؟! ذلك الحب الذى عزف بأنامله سيمفونيته الخاصة على أوتار القلب، إن كلمات الحب الأولى تظل محفورة فى الوجدان والذاكرة، تعجز يد النسيان أن تطالها، مهما تقادم الزمن، ومهما تصارعت الأحداث واشتبكت، يشتعل الرأس شيبًا، ويرتسم خط الزمن فى الجبين، وكلما كَبُرْتَ أنت، كَبُرَتْ معك تلك الذكريات الأولى، تكبر فى معناها، تنمو وتترعرع، يشيخ صاحبها ولكنها لا تشيخ.
وهل يتذكر أحدكم رفاق الطفولة؟ وهل يتذكر أحدكم.. وهل يتذكر..؟
إننى أدعوكم إلى أن تأخذوا نَفَسًا عميقًا وتغوصوا فى بحر ذكرياتكم، فالذكريات ليست على درجة واحدة؛ فمنها ما يجعلنا نبتسم، ومنها ما يجعلنا نتألم، ولكننا من كليهما نتعلم، ورحم الله شوقى حين قال: اختلاف النهار والليل ينسي.. اذكرا لى الصبا وأيام أنسي.