السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من يوميات صحفي.. رحلتي بالجركن في الدقي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعدما فرغت من شرب البنزين كان لزامًا عليّ أن أبصق ما تجرعته ولو حتى على الورق، حتى لا يحترق فؤادي، وأنا أرى أن ثمة تغيير جذري في طباع المصريين، خلفته السنوات السابقة، تضاءلت الشهامة، اختفت من شوارع القاهرة، فيروس ما تسلل إلى نفوسنا، أدركت ذلك قبل أسابيع حينما رأيت فيديو استهداف الجنود من قبل ذئاب تستقل دراجات بخارية، لكني قلت حينها هذا حادث عرضي، تملكني الخوف وأنا أرى صورة السيلفي لمسعفين ومن خلفهم ضحايا قطار الإسكندرية، واليوم موقف بسيط أكد لي ذلك، وبتجرد وبعيد عن فذلكة الكلمات، أقولها بملء الفم "فيها حاجة وحشة"، نحن لسنا كما كنا، لم نعد نطفئ حريقا، ولا نضمد جريحا، ولا نغيث صاحب كرب، وربما كانت تلك هي الأسباب الحقيقية لما نحن فيه، الإيمان في قلوبنا صار شجرة غير مثمرة لا يجد المستأنس بها ظلا، ولا لتر بنزبن.. نعم لتر بنزين صار في القاهرة أغلى من لتر دم، قبل أن تأفف من العبارة.. إليك الحكاية، بعد يوم عمل طويل نزلت من الجريدة، وأنا أتحسس مفتاح السيارة وأدفع قدمي بالكاد حتى أجلس على المقود، والحمد لله وصلت، وتهيأت لرحلة العودة للبيت، أدرت المحرك فبكبك الموتور كرجل أبكم ولم ينطق بكلمة تريح نفسي، وبعد محايلات استكان تماما، واجتمع السياس والبوابين لتشخيص الحالة، وكانت النتيجة أن شخص ما سرق البنزين، فضحكت ورضخت للأمر الواقع، وأعطاني أحدهما "جركن"، سيرت أدندن لأتناسى وجع قدامي، حتى وصلت إلى أول محطة بنزين، وفور دخولي كأنني أحمل ممنوعات، دوي صوت هاجمني من كل صوب وحدا "جركن لا".. ممنوع.. ممنوع.. ومن عامل إلى مشرف إلى مدير المحطة، الذي قال لي ممنوع، أنا صحفي ولو ممنوع، خد البطاقة ولو ممنوع، طيب والعمل، وهنا كانت المفاجأة ممكن تاخد بنزين طوارئ، آخد وماله فين.. قال لي جنابه في الإزازة هناك..ادفع 14 جنيها، دعك من السعر.. لكن ما الفرق الجوهري بين الإزازة والجركن لست أدري.. هل تدري؟ ما الحكمة؟ أجاب: اسأل بتوع التموين، ولو كنت أنت صحفي فأنا كمان صحفي.. مدير المحطة صحفي.."لا تضجك"، فقد أخرج لي كارنيه من جريدة "الواك واك" مكتوب فيها محرر صحفي، وهكذا ضاعت المعاني بين الكارنيهات، حاولت التسلل إلى داخله فوجدته مظلما إلى درجة أنني لا أرى فيه موضع قدمي.. تركته وانصرفت إلى بنزينة ثانية وثالثة، وكلهن يصفن بنزين الطوارئ هذا المنتج الجديد الذي لم أكن أعرفه، والذي أخبرني سائق التاكسي أنه سيحرق الموتور، ساعتين وأنا أسير بالجركن وأشعر أن مصر باتت جركن محكم الغلق ونحن بداخله يأكل بعضنا البعض، حتى اقترح عليّ أحد السائقين أن ألاغي أحد الطيارين وأشتري منه بنزين وسيفرع لي رتلين في زجاجة، والحمد لله ولا طيار استجاب إلا واحد وقف لكنه أخبرني أنه يسير على الاحتياطي، جلست على الرصيف أضحك، فمن ساعات كنت رئيسا لقسم أمسك القلم وأكتب صوت الناس وأحفزهم على إرسال شكواهم، وها أنا مواطن بجركن يطلب الغوث فلا يجده، بعد حين من الزمن.. رزقني الله بمن باع لي لترا من البنزين ولن أقول السعر إلى أن لكم أن تعرفوا أنه أغلى من لتر الدم، مسكت فم السيارة وجرعتها البنزين كدواء مر فنطقت على مضض، لكن الموقف أخرص قلبي.. وطيلة الطريق أتساءل ماذا حدث في مصر؟ أين شيم المصريين؟ لماذا صارت جدعنة ولاد البلد أرخص من البنزين؟