السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

صناعة التطرف الديني وأدوات تفكيكه

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الجماعات الإرهابية نجحت فى خلق التعصب الدينى عبر آليات عرفت مفاتيح تشغيلها
الإرهابيون يسيطرون على عقول الناس من خلال عمليات تشويه بنيتهم المعرفية

دراسات «المركز العربى للبحوث» 
استمرارا لسياسة التعاون بين جريدة «البوابة» والمركز العربي للبحوث والدراسات ننشر اليوم دراسة للدكتور أحمد موسى بدوى حول ظاهرة التطرف.

النظر العلمى فى مشكلات الإرهاب والتطرف، فى أوطاننا العربية وعلى رأسها مصر، له تاريخ طويل محبط غاية الإحباط، لا بسبب أن الدراسات العلمية فى هذا الميدان نادرة ندرة المياه فى الصحراء، ولا بسبب أنها عديمة الأهمية من الناحية التطبيقية، وإنما بسبب الصمت والإهمال اللذين يتعامل بهما صانع القرار العربى مع هذه الدراسات، ولعل مناسبة تأسيس المجلس القومى لمكافحة الإرهاب والتطرف، تحفزنا - بحذر- نحو مواصلة الكتابة تجاه تنبيه صناع القرار إلى أهمية إزالة الغبار عن مئات الأبحاث فى العلوم الاجتماعية التى استهدفت ولا تزال تستهدف ظواهر التطرف والإرهاب من جميع الجوانب.
ونركز فى هذه الدراسة على توضيح العلاقة بين البنية المعرفية المشوهة والتطرف الديني. وهى علاقة بعيدة عن اهتمامات صانع القرار، لكنها ليست بعيدة عن الحركات المتطرفة، فبها تمكنت من تجنيد الكوادر وارتكاب الجرائم. فكيف نفهم هذه العلاقة، وكيف نوظفها بطريقة عكسية فى تفكيك التطرف؟.

تتكون البنية المعرفية من مجموعة المفاهيم التى يكتسبها الفرد منذ ولادته فى شتى المجالات، وتمثل الإطار العام للمعلومات التى يملكها الفرد وتوجه سلوكه. وهذه البنية دائمة التغير بسبب التدفق المستمر للمعلومات الجديدة التى يتعين على العقل التعامل معها طوال الوقت. بمعنى أن العقل فى حالة نشاط مستمر، من أجل ربط المعلومات الجديدة بالمعلومات القديمة عن طريق ثلاث عمليات ذهنية:
(١) التفكير المقارن، وبها يستطيع الإنسان التفريق بين الأشياء وتصنيفها، وحفظ دلالات اللغة، والتعرف على الأماكن والإحساس بالزمن، والحفاظ على الثوابت والمعتقدات.
(٢) التمثيل الرمزي: ونعنى به القدرة على تحويل المعلومات التى تعرض على العقل إلى رموز مقبولة ثقافيًا واجتماعيًا، والإنسان الذى يملك قدرة عالية على التمثيل الرمزي، يمكن أن يتفوق فى الرياضيات أو الفنون أو الآداب.
(٣) التفكير المنطقي، وتتضمن القدرة على الاستقراء والاستنباط، والتحليل والتقييم والتعليل والتعميم وحل المشكلات. 
ويمثل التكامل والتوازن بين عمليات التفكير الثلاث، أهمية قصوى فى تحديد نمط السلوك المتوقع من الفرد. والخلل الذى يصيب هذا التوازن، يؤدى تلقائيا إلى أخطاء فى معالجة المعلومات، بما يؤثر سلبًا على البنية المعرفية للإنسان. 
مع العلم أن الإنسان السوى يملك القدرة على إدارة عمليات التفكير ثلاثية الأبعاد (المقارن، الرمزي، المنطقي)، متى نجحت عملية التنشئة الاجتماعية العفوية (الأسرة) والمنظمة (مؤسسات التعليم) فى إكساب الفرد مهارات التفكير الثلاثي. وبطبيعة الحال توجد فروق فردية فى ذلك، فالنحات المصرى محمود مختار، والموسيقار العالمى عمر خيرت، والأديب العالمى نجيب محفوظ، بارعون فى التمثيل الرمزي، والعالم المصرى أحمد زويل بارع فى التفكير المنطقي. إذن كيف يحدث التشويه فى البنية المعرفية؟
البنية المعرفية للإنسان تضم كما ذكرنا خريطة المفاهيم التى استخلصها الفرد فى جميع المجالات الدينية، أو السياسية أو الاقتصادية.. إلخ. وللأسرة والمدرسة دور فاعل فى تشكيل هذه البنية المعرفية.
نستأذن القارئ أن نترك علم النفس المعرفى قليلًا، ونحمل البنية المعرفية لندخل بها ميدان علم الاجتماع، وسوف نكتشف أن تفشى الأمية بين السكان أكبر من ١٥ سنة، وضعف المستوى التعليمى لطائفة كبيرة من المصريين، فضلًا عن النمو السكانى المضطرد، وارتفاع عدد الأبناء داخل الأسرة الواحدة، وتدهور مستويات المعيشة، كلها عوامل تجعل من عملية التنشئة التى تتولاها الأسرة، تتم بشكل عشوائى وتقليدى ولا تراعي - إلا نادرًا - الأساليب العلمية فى التنشئة. فى مثل هذه الظروف، ترتفع احتمالات إصابة البنية المعرفية للفرد بالتشوه منذ نعومة أظافره، والذى يفلت من هذا التشوه إنما يفلت بقدرة قادر. 
وإذا حملنا هذه البنية المعرفية المشوهة الناتجة من عمليات التنشئة الأولية، ودخلنا عالم التربية والتعليم فى مصر، فإن الدراسات وثيقة الصلة تشير إلى أن المؤسسات التعليمية فى مصر، غير قادرة على تشكيل البنية المعرفية للأفراد تشكيلًا يصنع الإبداع والتقدم فى شتى المجالات، ويرى كثير من خبراء التعليم، أن المدارس والجامعات المصرية، تكرس نمطًا وحيدًا من التفكير، وهو التفكير المقارن القائم على الحفظ والتلقين، على حساب التفكير المنطقى والرمزي.
 فهل معنى ذلك أن البنية المعرفية لكل المصريين مشوهة؟ بالطبع لا، فالإنسان العادى يستطيع مع تراكم الخبرات المعرفية والمواقف والأحداث التى يمر بها والمعلومات التى يتعامل معها، أن ينظم نشاطه الذهنى ويعيد تشكيل خريطة المفاهيم الخاصة به فيستبعد الأفكار الخاطئة، ويستبدلها بأفكار ومفاهيم صحيحة. والبعض فقط لأسباب شتى، نفسية أو اجتماعية يستسلم لهذا التشوه. 
تشير العديد من الدراسات النفسية إلى وجود ارتباط قوى بين التشويه المعرفى cognitive distortion والتعصب بجميع أنواعه. (انظر دراسة: أحمد محمد أبوزيد، مجلة علم النفس، عدد١١٣، ٢٠١٧، ص ٣٨-١١٧). وسوف نركز فى الجزء المتبقى من الدراسة على المعرفة الدينية بالتحديد. حيث نجد أن تشوه البنية المعرفية الدينية، مرتبط بخلل فى أدوات التفكير الرئيسية الثلاث (المقارن، الرمزي، المنطقي) التى ذكرناها، هذا الخلل ينتج عنه اعتناق الفرد لمجموعة متكاملة من الأفكار الدينية الخاطئة. 

والمصاب بهذا الداء الخفي، يعانى بصفة دائمة من اضطرابات فى المزاج النفسى، ومن سيطرة المشاعر السلبية على نظرته للحياة والمجتمع، بما يؤثر تأثيرًا بالغًا على أفعاله وأحكامه وتصرفاته فى المواقف والعلاقات الاجتماعية الدينية. وتكون المحصلة ميل الفرد المصاب بهذا التشوه نحو التعصب والتطرف فى سلوكه. 
وقد توصل البحث العلمى إلى وجود سمات عامة مشتركة بين المصابين بالتعصب الديني، يمكن تلخيصها فيما يلي:
يميل الأفراد المتعصبون إلى: 
(١) التفكير الثنائى الاستقطابي، بمعنى الحكم على الأمور بأحد النقيضين، الصواب أو الخطأ، الجنة أو النار، مجتمع الإيمان أو مجتمع الكفر. ويضع الفرد نفسه فى جانب الحق دائمًا والآخرين فى المقابل.
(٢) الانتقاء والتصفية، وارتباطًا بسمة التعصب السابقة، فإن الفرد لكى يريح نفسه، ويؤكد صحة موقفه، فإنه يتعامل مع كل المواقف والأحداث الدينية، بطريقة الاستبعاد والانتقاء والتصفية، بمعنى التركيز على الجوانب السلبية وإنكار الجوانب الإيجابية أو العكس، فإن أصدرت الحكومة قرارًا يتعلق بالمساجد، مثل قَصْر تشغيل مكبرات الصوت الخارجية على الأذان فقط، مع تقديم المبررات الكافية لإصدار هذا القرار، فإن المتعصب لا ينظر إلى الجوانب الإيجابية فى هذا القرار، ولكنه ينظر فقط إلى سلبيات القرار، وعبر هذا الانتقاء يرفض القرار رفضًا تامًا، ويعمل على تأليب الناس عليه زاعمًا أن الحكومة تحارب الدين.
(٣) المبالغة فى تقييم الأفعال، على معنى ميل المتعصب دينيًا نحو تضخيم الأحداث والمواقف التى تتوافق مع معتقداته وأفكاره واتجاهاته، والتهوين التام لما عداها، وقد شاهدنا ذلك من المتعصبين لفكر الإخوان وأشياعهم، فى سياق أحداث ثورة ٣٠ يونيو، فقد اشتغلت وسائل الإعلام الإخوانية على التهوين من حجم الجماهير التى خرجت فى ذلك اليوم، ولم تعترف مطلقًا بخروج الملايين إلى الشوارع. ومن قبل فى ثورة ٢٥ يناير، لجأت إلى التضخيم، والادعاء بأن جمهور الإخوان هو الذى يملأ الميادين مع التهوين من حجم القوى الأخرى أو حتى الجماهير العادية المتواجدة على الأرض. 
(٤) التعميم المنفلت، على معنى الاستناد إلى حالة خاصة أو جزئية واعتبارها دليلًا كافيًا على إصدار الأحكام العامة الكلية، ومرة أخرى نعود لميدان ثورة ٢٥ يناير، حين استغل الإخوان خروج نفر من ضباط الجيش وإعلانهم تأييد الثورة، وإشاعة تعميم منفلت بأن القيادات الصغرى والجنود فى الجيش، يريدون الخروج عن الحيادية التى فرضتها القيادات العليا للجيش.
 وأنهم يرغبون فى الانضمام للثوار، وهى نفس الحيلة التى تمت بها عسكرة الثورة السورية باستخدام نعيق قناة الجزيرة فى ذلك الوقت. 
(٥) شخصنة الأمور: يميل المتعصب إلى ترجمة تصرفات الآخرين العادية، على أنها موجهة إليه شخصيًا أو موجهة للجماعة التى ينتمى إليها. على معنى التسفيه من أى نقد بناء أو أفكار معارضة لفكر المتعصب، وصرف الانتباه بتحويل المسألة إلى معركة شخصية. ومن هذه الزاوية يعمد المتعصب إلى التفتيش فى حياة المعارضين الخاصة، بل واستحلال اغتيالهم معنويًا بإشاعة الأكاذيب عنهم، واتهامهم زورًا وبهتانًا. والأكثر غرابة من ذلك أن يستند المتعصب وجماعته إلى مبررات دينية واهية بطبيعة الحال.
(٦) الإسقاط على الآخرين: بمعنى ميل المتعصب إلى اتهام الآخرين وتبرئة نفسه أو من ينتمى إليه من كل ذنب أو فعل خاطئ أو فشل متوقع. وقد لا حظنا هذا الإسقاط مع الاستفتاء على الإعلان الدستورى الأول فى إبريل ٢٠١١، الذى سمى بغزوة الصناديق. واتهم فيها الأقباط بمحاولة عرقلة ظهور الدولة الإسلامية فى مصر، كما طالت الاتهامات الجماعة الصوفية المصرية، والليبراليين واليساريين، وتكرر نفس الإسقاط فى تبرير نسبة الرفض المرتفعة لدستور ٢٠١٢. 
(٧) الانفعال الدائم: بمعنى ميل المتعصب إلى تكريس موقفه بناء على ثنائية الحب والكراهية وفقا للمزاج النفسي، وليس بناء على المعلومات والحقائق. ومن ثم فإن المتعصب دائم الشعور بكراهية الآخر (فردًا كان أو طائفة أو مؤسسات دولة) ولا يعترف للآخر بأى إنجاز مهما ظهر جليًا واضحًا، وحتى إن ثبت هذا الإنجاز بالدليل الدامغ، فإنهم يؤولون ذلك على أسباب بعيدة تصرف أذهان الناس عن الحقيقة.
( ٨) الميل إلى العنف المعنوى والمادي: والمحصلة المنطقية لكل هذا التشوه المعرفى بسماته المذكورة، أن يتجه المتعصب أو المتطرف، نحو العنف الرمزى فى البداية، كمحاولات فرض الرأى على الدائرة الضيقة التى يعيش فى كنفها: الأسرة، جماعة القرابة، جماعة الأصدقاء، ثم فى بعض الأحيان يتحول العنف المعنوى إلى عنف مادى خشن، يمتد لدائرة أوسع، حين يتجرأ الفرد على فرض الرأى أو السلوك بالقوة، أو حين يبحث عن ملاذ داخل الحركات والجماعات المتطرفة التى تستوعب اتجاهاته التعصبية.
وبنظرة خاطفة على سمات التعصب، يجد القارئ أن كل سمة من السمات ترتبط بنمط مشوه من التفكير، حيث يظهر بوضوح هنا سيادة التفكير المقارن، الذى يكرس الحفظ والتلقين والطاعة والولاء، وغياب التفكير المنطقى الذى يعلى من قيمة الحق، وغياب تام للتمثيل الرمزي، الذى يعلى من قيم الخير والجمال والصالح العام. 
ربما يدور فى ذهن القارئ أسئلة تعارض العبارة السابقة من قبيل: لماذا نجد الطبيب والمهندس والمحامى وأستاذ الجامعة، ضمن طائفة المتعصبين دينيا؟ أليس هؤلاء جميعا ممن لديهم براعة فى التفكير المنطقي؟ ولماذا نجد بعض الفنانين والأدباء ممن برعوا فى التمثيل الرمزي، ضمن طائفة المتعصبين دينيا؟ والإجابة الفورية عن هذه الأسئلة: أن براعة هؤلاء فى أحد عمليات التفكير الثلاثي، لا تمنع من إصابتهم بالتشوه المعرفى المفضى إلى التعصب. ولو افترضنا أن هذه الفئات كانت تتمتع فعلا ببنية معرفية سوية، فإن الجماعة أو التنظيم قد أوجد آلية لتشويه هذه البنية وهى آلية التعطيل العمدى لأدوات التفكير الأساسية وحصرها فى مسار إنتاج التعصب للفكرة أو الجماعة أو التنظيم.
والمتتبع لسيرة المنشقين عن هذه الجماعات كالدكتور ثروت الخرباوي، يعرف كيف احتدم الصراع بين بنية معرفية سوية، وبين عمليات تعطيل هذه البنية وتشويهها، وكيف انتصرت البنية المعرفية المتزنة على محاولات استعمارها واستبدالها ببنية مشوهة. كما أن المتتبع لسير المتورطين من أصحاب المهن العليا، كالبلتاجى أو العريان، ومن قبلهم سيد قطب، سوف يكتشف كيف أن صناعة التعصب تمكنت منهم لدرجة الهزيمة المنكرة. ما نريد تلخيصه هنا أن الجماعة المتطرفة أولا ثم الإرهابية بعد ذلك، تستلب عقول وقلوب الناس من خلال عمليات تشويه بنيتهم المعرفية. ولن أستطرد كثيرًا ولكن يجب ألا ننسى أنهم يبنون على نظم تنشئة اجتماعية ونظام تعليم ضعيف، ما يسهل عملية صناعة التعصب الديني.
للإجابة على هذا السؤال، نفرق بين فترتين فى حياة الفرد المتطرف، الأولى قصيرة مؤقتة تنتهى لحظة قبوله الانضمام للجماعة أو التنظيم، بينما تمتد الفترة الثانية طيلة وجوده داخل هذا الكيان المتطرف.
الفترة المؤقتة: فى هذه الفترة يتعرض العضو لعملية تحول مترابطة ومتسلسلة. تعتمد أساسا على الجانب النفسي، يتعود فيها على التفكير الثنائى الاستقطابي، والتفكير الانتقائى والانفعالي، ويهجر التفكير المنطقى والرمزي. حيث تشير الدراسات السوسيولوجية للتطرف، إلى أن كادر الجماعة المكلف باكتشاف العناصر الجديدة وضمها للجماعة، يختار من الشباب الذين يتمتعون بعاطفة دينية قوية، وغالبية هؤلاء الشباب متدينون تدينا عاديا وطبيعيا، واستغلالا لهذه العاطفة القوية، تجرى عملية تجنيد أو ضم الأعضاء الجدد، والتى تمر بعدة مراحل، تبدأ بمرحلة الألفة حيث يقوم كشاف الجماعة، بتأسيس علاقة بالشخص المستهدف بطريقة ما، تقوم على التعاون والمساندة والثقة المتبادلة، تليها مرحلة نقد الأحوال، ثم مرحلة العزل، حين يطلب من العضو المرشح الإعراض عن الجاهلين، حتى لو كانوا من الوالدين والأقربين، ثم مرحلة خلق البدائل وفيها يستخدم الكشاف التفكير المقارن المتحيز فيقدم فكر الجماعة كأفضل الحلول، فإن قَبِلَهُ المرشح يعرض عليه السؤال الحاسم: إما أن تقبل مشروع الجماعة الإيمانى أو ترفض فتظل تبعا للمجتمع الجاهلي؟ وغالبا ما يتحمس الفرد للانضمام، وقليل من يفلت من هذا المصير المظلم. مع لفت الانتباه إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، أحدثت طفرة فى حشد وتجنيد الكوادر، وأصبح الكشاف الافتراضى قادرا على القيام بهذه الخطوات مع عشرات الأشخاص فى نفس الوقت. 
الفترة الدائمة: لكن الآليات التالية بعد الانضمام هى الأكثر ترسيخا للتشوه المعرفى لدى الأعضاء الجدد، وبالتالى هى الأكثر ترسيخا للتعصب والتطرف، لأنها مبنية على الالتزام والطاعة المطلقة، ويمكن ترتيب هذه الآليات بالاستفادة من النظرية البنائية الوظيفية على النحو التالي:
(١) آلية المحاكاة: هى عملية التمثل والاقتداء بالرموز والشخصيات الدينية التى ترتضيها الجماعة كمرجعية فكرية، وعن طريق هذه الآلية يكتسب العضو الجديد عناصر الثقافة الخاصة بهذه الجماعة، بما تتضمنه من قيم ومعايير وأهداف قصيرة وطويلة الأمد. وتتم هذه المحاكاة عبر عمليات مقصودة من تأسيس البناء الفكرى (المشوه) القائم على الانتقاء والتصفية والاستبعاد، والشخصنة، والانفعال، والتفكير الثنائى الاستقطابي، اعتمادًا على التفكير المقارن من أجل ترسيخ الانتماء للجماعة، وإضعاف الانتماء بأى هويات أخرى. وتأخذ هذه الآلية الأولوية فى التفعيل حتى ينسلخ العضو من الفضاء العام انسلاخا باتا وتصبح الجماعة عالمه الوحيد.
(٢) آلية الكف: تهدف هذه الآلية إلى تدريب العضو الجديد على الابتعاد والكف عن التعاطى مع أى معرفة دينية خارج المعرفة المعتمدة داخل الجماعة، ولهم فى ذلك أساليب شتى. كمنع الصلاة فى بعض المساجد، وتحريم قراءة بعض الكتب الدينية، والأمر بحفظ كتب أخرى، وتحريم مشاهدة بعض القنوات الفضائية، والأمر بمتابعة قنوات بعينها، وتمتد القائمة، لتشمل الزواج الداخلي، ومعاملات البيع والشراء والخدمات إلى تحريم إلقاء السلام على بعض المخالفين لهم فى الرأي، وهكذا. المهم أن هذه الآلية تعمل على تعطيل التفكير المنطقى تعطيلا تاما، لأنها تقوم على الطاعة العمياء، ممهدة لهيمنة التعميم المنفلت، والإسقاط على الآخرين، وتكريس وتفضيل خيار القوة والعنف المعنوى والمادى فى التعامل مع المخالفين للجماعة.
(٣) آلية التدعيم: وتقوم هذه الآلية على منح العضو الجديد دعمًا مُشْبِعًا يزداد كلما أبدى العضو درجة عالية من الانتماء. 
وتأتى هذه الآلية تابعة وتالية لفرض آلية الكف، أى أن قادة الجماعة يضعون التدعيم وفيه إشباع بعد الكف وفيه حرمان، وتتنوع وسائل التدعيم ما بين مكانة اجتماعية داخل الجماعة أو عوائد مادية مغرية أو كلاهما. على معنى أن العضو الملتزم يتوقع فى أى لحظة جائزة على هذا الالتزام. 
وهذه الآلية تكرس التعصب للجماعة من زاوية الانفعال الدائم، فالتدعيم يلعب على وتر الاحتياجات المادية والاجتماعية والروحية، إنها باختصار آلية سرقة عواطف ومشاعر الأعضاء، فتمسى المحبة من نصيب الجماعة والكراهية لمن يخالفها.
(٤) آلية الابدال: العمل على توجيه مسار الانفعال بأحد الموضوعات المستجدة التى تؤدى إلى خلل فى توازن التنظيم الى الانفعال بموضوع آخر يحافظ على النسق ويدعمه. فإذا تجرأ عضو على الخروج من الجماعة مع إبداء الأسباب المنطقية، فإنهم لا يتورعون عن قلب الحقائق وابدالها، والعمل على اغتيال العضو الخارج اغتيالا معنويا. 
ومن الصور الشهيرة لآلية الإبدال، ترسيخ فكرة الانتصار والفوز المنتظر، بطرق خارج حدود المنطق والمعقول، فلم يتورع قيادات جماعة الإخوان وفقًا لهذه الآلية عن إشاعة الأساطير والكرامات فى اعتصامى النهضة ورابعة العدوية، وأشهرها أسطورة صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام خلف محمد مرسي، وصناعة الكرامات، مثل فوحان رائحة المسك من الأماكن التى قتل فيها بعض المعتصمين.
(٥) آلية التوحد: تعمل هذه الآلية الخبيثة على ترسيخ التلازم اللاشعوري، بين الأمن الوجودى للعضو، والأمن الوجودى للتنظيم، تلازم الوجود والعدم، والإيحاء الدائم بأن الجماعة تواجه المخاطر والعداوة من خارجها. هذا التوحد يولد لدى العضو نوعان من الاستعداد: استعداد عام ودائم لخدمة الجماعة والالتزام بمبادئها وأهدافها.
أما الثانى والأخطر فهو الاستعداد المخصوص، ويحتاج إلى قدر أكبر وأعمق من التنشئة الخفية، بحيث يرغب العضو ويطمح إلى التضحية بالنفس، من أجل ضمان بقاء الجماعة والفكرة. هنا يبلغ التشوه المعرفى منتهاه وتتملك العضو حالة من التعصب يصعب البراء منها. 
ومن هذه الفئة تشكل النظام الخاص لجماعة الإخوان، والمجموعات الاستشهادية فى التنظيمات الأخرى. 
مما سبق يتضح أن تشويه البنية المعرفية للمصريين، مسألة خطيرة وتأثيرها على حياة الناس والمجتمع كبير، وأن هذا التشوه يرتبط بأساليب التنشئة الاجتماعية التقليدية، وبنظم التعليم الضعيفة، كما يتضح أن الجماعات المتطرفة نجحت فى فهم أسرار النفس البشرية، فاستغلت هذه المعرفة فى صناعة التطرف والتعصب الدينى عبر آليات عرفت مفاتيح تشغيلها.
ونؤكد أنه ما دامت توجد آليات لصناعة التطرف، فحتما توجد آليات لتفكيكه، وذلك بإزالة التشوه المعرفى وخفض درجات التعصب لدى المصريين عامة والشباب منهم خاصة. وهذه المهمة ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى جهد مؤسسى كبير، تحت إشراف المختصين فى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن يكون العمل جماعيا تكامليا بين هذه التخصصات، هذا المجلس باختصار لا يحتاج إلى جيش من القيادات التنفيذية، وإنما يحتاج إلى جيش من العلماء، إن أردنا أن تكون له ثمرة حقيقية. فهل أنتم فاعلون؟.