الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

بيوت الأدباء.. قصائد في طي النسيان

منزل طه حسين
منزل طه حسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«هذا البيت قد كتبتُ فيه خير كُتبى وأحبها إلي، وقد عشت فيه تلك الكتب قبل أن أنقلها من عالم النفس إلى عالم الأوراق، وهذا المسكن قد صعدتُ سلالمه ثلاثًا ثم صعدتها اثنتين اثنتين، ثُم أصعده درجة درجة على غير عجل واكتراث، وهذا المنزل قد نزلت به والشعرات البيض يتوارين فى السواد، وما زلت أنزل بهِ والشعرات السود يتوارين فى البياض».
هكذا وصف العقاد علاقته الحميمة ببيته فى كتابه «فى بيتي»، لينقل لنا أن بيت المبدع ليس كباقى البيوت، بل هو نبضات وأنفاس حية يستحضرها حتمًا حين يكتب، نراها فى كثير من المشاهد.
ولا يمكن أن نكون جادين فى حديث عن التنوير والثقافة إن كنا نطفئ بأيدينا أنوار ثقافتنا تارة بدعوى الإهمال، وأخرى بدعوى التجاهل، لتصبح بيوت الأدباء فى مصر إما مرتعًا للزواحف أو أثرًا بعد عين أمام أعين المسئولين دون أن يحرك أحد ساكنًا.

أبرزهم «الغيطانى» و«الخميسى» قائمة بيوت مهملة يعلنها شعبان يوسف
«مصر زاخرة دومًا بمكتبات وبيوت الأدباء العظام»، هكذا أكد الشاعر والناقد شعبان يوسف قائلا إن مصر تحفل ببيوت المبدعين الكبار كالعقاد، وطه حسين، ومحمود تيمور فضلًا عن يحيى حقي، ونعمات أحمد فؤاد، بجانب لطيفة الزيات ومحمود شاكر، معتبرًا أن بيوت الكبار تستحق الخلود.
وكشف يوسف عن بيت منسى وهو منزل الشاعر عبدالرحمن الخميسى الذى جرى به كثير من المغامرات واللقاءات، فقد كان قبلة لكثير من الأدباء والفنانين، وهو من البيوت العظيمة ولا يزال قائمًا إلى الآن فى لاظوغلي، فقد أرّخ لأحداث كثيرة وشهد على علاقات الخميسى بكثير من الأدباء والفنانين والساسة والقادة والملحنين، ووصفه بأنه «بيت عريق شهد أحداثًا عظيمة».
كذلك منزل الأديب محمود شاكر فى مصر الجديدة، الذى كان شاهدا على مؤلفات ونقاشات عديدة بين شاكر ويحيى حقى ومصطفى الشكعة وغيرهم.
ودعا شعبان يوسف إلى الاهتمام بمنازل عدد من الأدباء مثل مجيد طوبيا، وجمال الغيطانى الذى اعتبره أحد البيوت التى كانت مفتوحة للجميع.
واعتبر يوسف أن اللافتة التى وضعتها وزارة الثقافة على بيت سيد مكاوى وجاء فيها: «هنا عاش سيد مكاوي» بداية طيبة، فيكفى أنها ستعرفنا بيوتًا لأدباء وفنانين من الممكن أن تتحول إلى مزارات فيما بعد.
ففى مصر بيوت الأدباء أنواع - يواصل يوسف -: «هناك بيوت تؤول إلى الورثة وتهمل أو تباع وتندثر، وهناك بيوت كثيرة تحتاج إلى اهتمام واحتفاء، وإلى إعادة إنتاج التعامل معها لتدر دخلًا وثقافة، وتصبح استعادة لأماكن شهدت إبداعًا من المؤسف أن تتلاشى».
فى جميع أنحاء العالم تستغل بيوت الأدباء والمثقفين كمزارات سياحية، ويمكن استغلال تراث المبدعين فى تصميم جولات سياحية نقوم بها للحديث عن الأمكنة التى ألهمتهم أثناء الكتابة أو التى عاشوا فيها، وفضلًا عن المتاحف، يمكن أن تتحول بيوت المبدعين إلى استثمارات تدر أموالًا طائلة.

بيت «كفافيس» أنقذه اليونانيون
فى منطقة محطة الرمل بالإسكندرية، منزل علقت عليه لافتة مكتوب عليها «منزل كفافيس»، الذى تحول إلى متحف يضم مقتنيات للشاعر اليونانى «قسطنطين كفافيس» الذى ولد فى الإسكندرية عام ١٨٦٣.
بعد وفاة الشاعر اليونانى نقلت الجمعية اليونانية ما تبقى من أثاث إلى مقرها وأقامت متحفًا خاصًا بكفافيس، وتحول منزله إلى «بنسيون» حتى ١٩٩١، وهو العام الذى أسس فيه جمعية محبى «كفافيس» التى أسسها المستشار الثقافى اليونانى «مسكوف» وكان أحد أعضاء هذه الجمعية رجلًا ثريًا يدعى «ستراتى جاكس»، والذى تبرع بمبلغ من المال فى سبيل تخليد ذكرى كفافيس.
ظل مسكوف يبحث عن منزل كفافيس حتى وجده، فتفاوض مع صاحب «البنسيون» وأقنعه بترك المنزل، ثم قام بعمل صيانة للمنزل ونقل مقتنيات كفافيس إليه، وافتتح فى ١٢ أكتوبر ١٩٩٢، كمعرض للكتب والمقتنيات البسيطة.

متحف لندنى لشخصية خيالية والزهور تحيط منزل بيتهوفن
لأن الطقوس المحيطة بالمبدع تشغل القارئ الغربي، فقد صدر كتاب للصحفية فرانسيسكا بريمولى والمصورة إريكا لينارد ينقل هذه الأجواء بعنوان «أين كانوا يكتبون؟.. بيوت الكتاب والأدباء فى العالم»، صدر مؤخرًا عن دار ثقافة للنشر، ترجمة رجاء ملاح.
الكتاب يرصد بيوت مشاهير الكتاب فى العالم، ليشبع فضولنا لمعرفة كيف كان يعيش هيمنجواى مثلًا، أو أين كان يكتب مارك توين، أو فرجينيا وولف، وكيف كانت بيوتهم، وما هى أحب مقتنياتهم؟.
فى النمسا حافظوا على بيت الموسيقار «موتسارت» الذى نشأ فيه رغم أنه يعود إلى القرن الثانى عشر، ليصبح أحد أهم المعالم السياحية، كما أطلقوا اسمه على مطار مدينة «سالزبورج» التى ولد فيها.
وفى المدينة التى ولد بها بيتهوفن فى ألمانيا، أصبح بيته مزارًا ومتحفًا تحيطه الزهور ويقصده سنويا أكثر من مئة ألف زائر، وحافظوا فيه على البيانو الأخير الذى كان يجلس إليه العبقرى الأصم ليسمع العالم أجمل ما فى قلبه من نغم.
وكان لـ«تشايكوفسكي» الموسيقار الروسى منزل عاش فيه فترة قصيرة فى ضاحية تبعد عن العاصمة بعدة كيلومترات، حولته السلطات إلى متحف يزوره الآلاف سنويًا علاوة على متحفه بالعاصمة.
وبيوت المبدعين تعد مزارات سياحية فى فرنسا، مثل فيكتور هوجو الذى لا يزال بيته الباريسى قائما، بل إن ثمة جامعة وطنية لبيوت الكتاب تنظم رحلات إلى المواقع الأدبية، سواء الأماكن التى كان يرتادها الأدباء والشعراء أو البيوت التى عاشوا فيها، كما أن أحد الفنادق فى باريس، مثلًا، يضع لوحة على مدخله كتب عليها «هنا نزل جان بول سارتر».
ومتحف هيمنجواى فى «شيكاغو» يقع على مقربة من البيت الذى ولِد فيه الكاتب العالمى «أرنست هيمنجواى»، ويزوره الآلاف من كل الجنسيات للتعرف إلى عالم الرجل الإنسانى والإبداعي. فلاديمير نابوكوف الروائى الروسى صاحب رواية «لوليتا» المثيرة للجدل، كان سليل عائلة روسية ثرية، وكان يقيم فى إحدى ضياعها المذهلة، الباقية حتى اليوم. وقد حُوّلت إلى متحف لمقتنيات وقصة حياة نابوكوف حاليًا.
منزل الكاتب الألماني - السويسرى العظيم هيرمان هسه، تحول إلى مزار أدبى فني، يحتوى على العديد من متعلقات الكاتب، يزوره عدد كبير جدًا حتى أنه يشترط الحجز مسبقًا قبل الحضور.
والغريب أن هناك شخصية خيالية مثل «شارلوك هولمز» تحول منزله إلى متحف أيضا، وهو المتحف الأكثر شعبية خاصة فى لندن، افتتح المتحف فى عام ١٩٩٠.
عزبة «زاخاروفو»، هى من المتاحف - المحميات فى ضواحى موسكو التى أمضى فيها طفولته الشاعر الروسى العظيم ألكسندر بوشكين، مؤسس اللغة الأدبية الروسية الحديثة، وهناك بدأ بوشكين كتابة أشعاره الأولى، ويعد أكبر متحف للفنون الأوروبية فى موسكو.

«سيد درويش» ..«عباس العقاد».. «طه حسين».. ثلاثة رواد تاهت آثارهم
ولأن سيد درويش لم يجد من ينقذ منزله، فقد تحول البيت الذى ولد فيه سيد درويش فى كوم الدكة بالإسكندرية إلى مرعى للماعز!
وتحول منزل العقاد بمصر الجديدة من أكبر صالون ثقافى فى الأوساط الأدبية إلى مبنى متهالك آيل للسقوط أهملته الدولة.
ولم نعرف شيئًا عن منزل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى المنيا، والشاعر حافظ إبراهيم بمنفلوط، والشاعر محمود حسن إسماعيل فى النخيلة بأسيوط، ورفاعة رافع الطهطاوى بطهطا، والشاعر أمل دنقل بالقلعة فى قفط، والقاص يحيى الطاهر عبدالله بالكرنك القديم بالأقصر، والأديب والمفكر عباس محمود عباس العقاد بأسوان.

نجل خيرى شلبى يطالب بإطلاق اسم والده على شارع فى «المعادى»
يرى الكاتب زين العابدين خيرى، ابن الأديب الكبير الراحل خيرى شلبى أن وزارة الثقافة لم تتواصل مع أسرة الراحل لتكريم والده، بل إنها لم تطرح الفكرة إلى الآن.
وعن الاهتمام بالمنزل الذى عاش وأبدع فيه صاحب «بغلة العرش» يقول: «لا أعتقد أن هناك توجهًا لفعل ذلك فى مصر»، ولو أننا نتمنى كأسرة خيرى شلبى أن يتم وضع اسمه على الشارع الذى كان يسكن فيه فى المعادي، خصوصا أن الشارع يحمل اسم شارع النصر، وهو مجرد اسم عادى متكرر فى كل أنحاء مصر.
ويرى نجل خيرى شلبى أن تكريم اسم والده يتم عادة بمبادرات فردية أو بجهود شخصية، حيث يروى أنه فى شهر رمضان الماضى قامت أخته الكبرى ريم بمجهودات شخصية بالتعاون مع المسئولين عن بيت السحيمى فى شارع المعز بتنظيم معرض لبعض المقتنيات الشخصية لخيرى شلبى هناك على هامش ندوة عنه، ولم يحدث أى شيء جدى بخصوص التكريم، وكل ما يتم فى ذكرى الميلاد والرحيل مبادرات فردية من بعض الجهات لعمل ندوات وحفلات تكريم بسيطة وليست على مستوى الوزارة، لأن المسئولين لا يضعون مثل هذه الأفكار الخاصة بالثقافة والفن على أولوية اهتماماتهم على حد قوله.
ويرى زين أن هناك تجارب سابقة لاهتمام الدولة ببيوت الأدباء؛ كبيت أحمد شوقي، وبيت طه حسين، ولكن لا يعرف بالتحديد إن كان تم التبرع بها من جانب الورثة أم أن الدولة هى التى تولت ذلك الأمر. كما يشير إلى تجارب سلبية سابقة كما حدث مع فيلا أم كلثوم فى الزمالك التى تم هدمها لبناء برج سكني.
وفى كل الأحوال، هناك طرق كثيرة لإحياء تاريخ وتراث الأدباء والمفكرين الكبار لو لم تصلح بيوتهم أو بالأحرى الشقق التى كانوا يسكنون فيها لأن تتحول إلى متاحف، كأن يتم عمل متحف مجمع بمخطوطاتهم وملابسهم وأدواتهم الكتابية ومكاتبهم التى كانوا يكتبون عليها وغير ذلك ليساعد ذلك المهتمين والباحثين للتعرف عليهم بدقة وعن قرب.
وبخصوص مكتبة الراحل خيرى شلبي، كشف نجله عن تواصل جرى مع الدكتور خالد عزب ممثلًا عن مكتبة الإسكندرية بخصوص جمع مخطوطات خيرى شلبى لعمل قسم خاص بها فى المكتبة، ولم تتم أية إجراءات فعلية بهذا الخصوص لأسباب تخص أسرة خيرى شلبى، حيث لم نقم بعد بتجميع وأرشفة هذه المخطوطات قبل تسليمها للمكتبة.
ويضيف: «أما المكتبة نفسها فنحن نحتفظ بها كما هى لأننا نرى أنها من حق أبنائه وأحفاده طالما يستفيدون منها حتى الآن، وربما فى المستقبل إن عرضت إحدى الجهات الاستفادة منها بشكل آخر، ربما وقتها نفكر فى تغيير ما اتفقنا عليه».
ويتمنى زين العابدين خيرى عمل متحف كبير مجمع لأدباء ومفكرى مصر الكبار، ليكن اسمه متحف الأدباء أو الكاتب المصري، يتم فيه تجميع مقتنيات وكتب الأدباء الكبار عبر تاريخ مصر، مع إصدار موسوعة شاملة تضم كل شيء عنهم وعن أعمالهم وتاريخهم بعدة لغات، لتسمح للزائرين المصريين والأجانب بمعرفة كل شيء عن الأدب والأدباء المصريين عبر التاريخ.

«الأخطل الصغير» و«إلياس أبوشبكة» بيوت أدباء عرب خارج الذاكرة
لم تكن مصر وحدها التى لم تلتفت لتكريم أدبائها وتخليد البيوت التى شهدت إبداعهم، ففى لبنان أيضًا يعانى منزل شاعر القطرين خليل مطران، ومؤخرًا تم الإعلان عن مشروع لترميم منزله، وتحويله إلى مركز ثقافى، ليكون مقصدًا للثقافة ولطالبى العلم.
تم هدم بيت الشاعر التونسى الكبير أبى القاسم الشابى فى مسقط رأسه، دون أن يتحرك أحد لتحويله إلى متحف.
أيضًا منزل الشاعر بشارة الخورى (الأخطل الصغير) فى بيروت لا نعرف عنه شيئًا، ومنزل المفكر اللبنانى حسين مروة الذى اغتالته القوى الظلامية عام ١٩٨٧ يسكن فيه نجله ولا تزال مكتبته كما هي.
محمود درويش الذى عاش سنوات طويلة فى بيروت لا نجد لوحة تذكارية تكرّمه، ومنزل طفولة الفنانة فيروز كاد يتحوّل إلي ركام، لكن تحقيقًا تليفزيونيًا حوله دفع لبنان إلى الإعلان عن تحويله لمتحف والمشروع غارق فى البيروقراطية منذ سنوات.
منزل الشاعر اللبنانى إلياس أبوشبكة تحول إلى متحف، وحين بدأت الحرب الأهلية فى لبنان سكن فيه مهجرون وتحوّل البيت إلي محل لبيع الأحذية، لم تسترجع البلدية البيت إلا أواخر الثمانينيات، بعدما تعرّض لعملية تشويه لبعض معالمه، وخصوصًا أبيات شعرية كان الشاعر كتبها على جدرانه إلى جانب بعض الرسوم.
متحف جبران خليل جبران رغم أنه الأكثر جذبًا للسياحة فى لبنان، إلا أن الغريب أن المتحف ليس منزلًا لجبران لكن عائلته اشترته وتحول إلى متحف يضم لوحاته ومقتنياته من أثاث بيته بأمريكا.

هشام إبراهيم أصلان: والدى كان يعيش فى «إيجار جديد»
«وزارة الثقافة علاقتها بالمشروعات الثقافية ضعيفة».. هكذا بدأ هشام أصلان نجل الأديب الكبير الراحل إبراهيم أصلان حديثه معنا حول إذا ما تم من تواصل مع أسرته لتكريم والده أو تخليد ذكراه.
وكشف هشام أن والده لم يكن يعيش فى بيت يملكه، لكنها شقة إيجار جديد تركتها الأسرة بعد رحيله، لكن بصفة عامة يرى هشام أن مسألة الاهتمام ببيوت الأدباء الراحلين فى مصر أمر لا يزال بينه وبين الدولة مسافة بعيدة جدًا، قائلًا: «حين نملك مشروعًا ثقافيًا حقيقيًا سيكون الاهتمام ببيوت الأدباء جزءًا منه.. لكن الواقع يؤكد أننا نبعد عن تلك الأفكار».
ويشير هشام إلى أن كل البلاد «المحترمة» التى تملك أدبًا حقيقيًا كبيرًا تبنت مثل هذه المشروعات القائمة على الاحتفاء بالأدباء وتخليد ذكراهم.