الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بحر البنات..!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هناك على أطراف مدينة الفيوم، بالقرب من قرية صغيرة اسمها عزبة السيد محمد، هى مسقط رأس والدى وسميت باسم جدى الكبير الذى كان عمدتها، مررت وأنا ذاهبة فى زيارة لجدتى أم الباشمهندس على بحر عذب يسمونه بحر البنات!
اجتذبنى الاسم كثيرًا، خاصةً أنه فى منطقة ريفية يعرف عنها تفضيل إنجاب الذكور وعدم الاعتراف بحقوق البنات من الأساس إلا من رحم ربي، تساءلت عن سبب التسمية من أهالى القرية، ولكن أحدًا لم يجبني، بحثت على «جوجل» عن سر هذا الاسم، لكنى لم أجد أية معلومات، فساقنى خيالى إلى أن أتكهن سبب هذه التسمية!
تخيلت مثلًا أنه كان بحرًا جاريًا مياهه وفيرة، فكانت تجلس الفتيات على ضفافه لتغسل الأواني، ومن هنا أطلق عليه شباب القرية اسم بحر البنات، لأنهم كانوا يذهبون إليه كلما ساقهم الشوق لاختلاس النظرات لجميلات القرية!
تخيلت أيضًا أن سيدةً حبلى كانت جالسة عليه فى موعد ولادتها، وجاءها طلق الولادة، والتفت حولها نساء القرية ليسعفنها، فسبقهن الجنين إلى الحياة وكانت بنتًا، فلقبنه بهذا الاسم حتى لا تقترب منه أى سيدة حبلى ترغب فى إنجاب الذكور!
تخيلت أيضًا أن هذا البحر ليلًا قد يكون لوحة فنية بديعة وساحرة، خاصةً إذا كان القمر ساطعًا والرياح باردة وحفيف الأشجار يتراقص مع صوت النسيم، فلربما أطلق عليه العاشقون هذا الاسم لأن كل شاب ضاق صدره بقيود القرية وعاداتها المنغلقة، واشتاق أن يناجى حبيبته، يذهب إلى هذا البحر مساءً، ويطلق لخياله العنان مع محبوبته، فيفاجأ أن كثيرًا من العشاق اجتمعوا معه عند البحر، علهم يطفئوا لهيب الشوق ببرودة ماء البحر ونشوة خيال المحبوبة!
تخيلت أيضًا أنه كان مكانًا سريًا تهرب إليه كل فتاة تواعد حبيبها سرًا بعيدًا عن عيون القرية، فكان يكتظ بالفتيات اللواتى يلجأن إليه ليسرقن من حياتهن الجافة وأعمالهن المنزلية الشاقة لحظات سعادة خاطفة مع إنسان تحلم أن ينتشلها من الخدمة الإجبارية لأبويها وأشقائها الذكور وربما العائلة بأكملها، ولكن كل ما تخيلته للأسف كان يدور حول واقع الفتاة الريفية البسيطة التى تعانى قلة الحظ من يوم ولادتها وحتى بعد أن توارى فى الثرى.
هؤلاء البنات اللواتى سمى بحر كبير باسمهن لا يجدن أى قيمة تذكر لكونهن بنات، غالبيتهن -إن لم يكن جميعهن- تمنين لو كن ذكورًا حتى ينعمن بالتمييز والسلطة والحرية، لا حول لهن ولا قوة، يرتدين الحجاب والنقاب والملابس المهلهلة منذ نعومة أظافرهن حتى فى أقصى درجات الحرارة، تحترق بشرتهن من حرارة الشمس أثناء الذهاب والإياب من الحقل، يملأن المياه ويسرن بها لمسافات بعيدة، يغسلن الأوانى ويحضرن الطعام، ويقمن بجميع الأعمال المنزلية، ويشاركن الرجل فى أعمال الفلاحة ومباشرة الحقل، ولا أولوية لديهن لا لتعليم ولا لأى مستقبل سوى انتظار العريس والبقية معروفة.
بحر البنات مجرد اسم، لا ينم عن أى ميزة تتميز بها البنات فى تلك المنطقة الريفية، البنات هناك لا يحصلن على أية مميزات مقارنة بالذكور، البنات هناك خاضعات مقهورات مستضعفات، لا يخطون خطوة دون إذن كل ذكر فى عائلتها حتى لو كان شقيقها الأصغر، البنات هناك لا يتعلمن، ويتزوجن فى سن صغيرة وتفنى حياتهن فى الواجبات والأعباء والقيود، وينظرن لكل امرأة نالت قسطًا من الحظ وخرجت من عباءة الفقر والجهل والسلطة الذكورية بسبب أهل متعلمين أو زوج مثقف، وكأنها كائن فضائي، ترى فى أعينهن إعجابًا بريئًا مكسوًا بحسرة ورغبة وتمنٍ، ولكن سرعان ما تتكسر أمانيهن على صخرة الواقع، عندما يسمعن صراخ الأم أو الأب أو الأخ أو الجدة، ينادون عليها لتكمل مشاقها الحياتية اليومية!.