الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"وعلم آدم الأسماء كلها".. طريق الإصلاح الديني والحياتي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قال الله لملائكته فى الأزل: «إنى جاعل فى الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون. «وعلم آدم الأسماء كلها» (البقرة:٣٠-٣١).
من هنا تأهل الإنسان وانطلق فى مهمته لإصلاح الأرض وإعمارها وبناء حضارته التى ترفع مستوى معيشته وتحميه من سفك دمه كما قال سبحانه: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود:٦١). وتمضى السنون ويحتاج الإنسان بين الحين والآخر إلى التذكير بمهمته الإعمارية والحضارية والتنبيه مجددًا بأن سلاحه الأساس فيها هو علم الأسماء كلها وهذا ما قام به أنبياء الله ورسله فيما قدموه من دين الله، وما خلدوه من الكتب السماوية المقدسة التى وصفت نفسها بالهدى والنور وليس بكونها دستورًا وقانونًا حتى تبقى مسئولية الإنسان كاملة فى تحمل تبعة قراراته فهو محل الامتحان وليس الكتاب المقدس كما قال تعالى: «ليبلوكم أيكم أحسن عملًا» (الملك:٢). فالإنسان فى كل عصر هو المسئول عن وضع دستوره وقانونه واتخاذ قراره الذى سيثاب عنه أو يعاقب عليه بحسب توجهه فى بناء حضارته وإعمار أرضه أو بحسب هدم إنجازاته وإفساد حياته، ولا يعذره الفهم الخاطئ لبعض نصوص الكتب المقدسة لأنها ما نزلت بوصف الدستور والقانون وإنما نزلت بوصف الهدى والنور.
وقد ابتليت البشرية على مدار تاريخها بمن يختطف دين الله لنفسه وجماعته ويقوم على حمل الآخرين باتباع فهمه بزعمه امتلاك الصواب المطلق أو الأرجح عند الله تعالى وكأن الله اصطفاه وكيلًا أو وصيًا على خلقه ما لم يجعله الله لرسله المعصومين الذين قال لهم: «ما على الرسول إلا البلاغ» (المائدة: ٩٩)، وقال سبحانه: «فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب» (الرعد: ٤٠). وقال سبحانه: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» (الغاشية: ٢١-٢٢). كل تلك الآيات وغيرها لتأكيد سيادة الإنسان والحيلولة دون النيل منها ولو باسم الدين الذى أبى الله إلا أن يكون له خالصًا كما قال سبحانه: «ويكون الدين كله لله» (الأنفال:٣٩)، فلا وكالة عن الله ولا كفالة كما قال سبحانه: «ولم يكن له كفوًا أحد» (الإخلاص:٤)، وبذلك يكون الإنسان مسئولًا عن قناعته وعن تصرفه كما قال سبحانه: «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه» (الإسراء:١٣).
ابتعث الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ٦١٠ م بمكة المكرمة لتجديد رسائل الأنبياء من قبله التى تمنع المتاجرة بالدين، كما قال تعالى: «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» (الأنبياء: ٢٥)، وكان قد بلغ عدد الجماعات الدينية بحسب ما ورد فى بعض كتب السيرة حوالى ٣٦٠ جماعة بعدد الأصنام التى هدمت حول الكعبة يوم فتح مكة سنة ٨ هـ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا» (الإسراء: ٨). ومن هذا اليوم العظيم عادت مكة المكرمة إلى ملة إبراهيم من جديد كما قال تعالى: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين» (النحل: ١٢٣)، وعلمنا سر معاداة أهل مكة للرسول صلى الله عليه وسلم من يوم بعث، مع أنه أشرف أبنائهم وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين، إلا أنهم أدركوا أن رسالته وهى ملة إبراهيم تلغى وظيفتهم التى يتكسبون منها باسم الوصاية الدينية، فكم كانوا يتمنون على رسول الله أن يكون زعيم طائفة دينية مثلهم أو أعظم منهم، ولا يكون رسولًا لبيان أن الدين لله؛ حتى لا ينفض الناس من طوائفهم، فعرضوا عليه أن ينصبوه عليهم ملكًا وأن يجمعوا له مالًا على أن يترك دعوته الكريمة التى تجعل الدين لله خالصًا بدون وكالة أو كفالة أو وصاية من أحد حتى تبقى مكاسبهم غير الشريفة بالكذب على الله أنهم حماة دينه وحراس عقيدته، وفى الحقيقة هم حماة أفكارهم ومكاسبهم وحراس أطماعهم وتسلطهم على خلق الله، وكانت إجابته: «لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما ترتكه حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
إن دعوة الدين لله هى دعوة رسل الله التى تصحح مسيرة الإنسان فى الأرض وتوجهه إلى مهمته الأساس فى الإعمار وبناء الحضارة بعلم الأسماء التى تتكشف شيئًا فشيئًا حتى بلغت اليوم ما يعرف بثورة المعلومات والقادم أكثر وأكثر. ولا يقاوم دعوة الرسل الإصلاحية اليوم إلا أوصياء الدين لتبقى مكاسبهم المالية والاجتماعية، فيتهمون الدعوة لقول الله: «لا إكراه فى الدين» (البقرة: ٢٥٦) وقول الله: «ويكون الدين كله لله» (الأنفال: ٣٩) بأنها دعوة للفوضى، كما يتهمون الدعوة لقول الله: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (النحل: ٤٤). وحديث النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبى هريرة أن النبى قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» بأنها دعوة غير مناسبة فى هذا العصر لأمية الناس وعدم تأهلهم للتعلم مدى الحياة من وجهة نظرهم، كما تخالف ما تناقلوه من مقولة «ليس كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر رجاله». وهنا يجب التبيه بأنهم أثبتوا بذلك جهلهم الفرق بين المعلومة وبين الخبر، فالمعلومة حق الإنسان فى كل وقت كما علم الله آدم الأسماء كلها، وأما الخبر فالحكمة تقتضى أن يكون شيئًا فشيئًا كما قال تعالى: «وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض» (التحريم: ٣)، والخبر بعد فوات مناسبته يصير معلومة فتكون حقًا لكل من يطلبها.
إن أوصياء الدين لا يقاومون دعوة الرسل فى جعل الدين لله فحسب، وإنما يصولون على الشعب فى مصادرة حقه فى إدارة شئون نفسه ويسعون إلى تقسيمه طوائف وجماعات لتبقى مكاسبهم على حساب دماء العصبية وبالمخالفة لسنة الله الكونية بوحدة الشعب بدون طائفية كما قال تعالى: «وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: ١٣).
إن الرهان فى إصلاح الخطاب الدينى على الشعب يوم يطلب من أصحابه أن يلتزموا الصدق بالإفصاح عن كل المعلومات المتاحة فى المسألة المطروحة بدون إخفاء أو تدليس، وأن يلتزموا الأمانة بنسبة كل معلومة لصاحبها أو مدرسته، فيما يعرف بالتوثيق، فلا ينسب اجتهاد فقيه إلى الله وإنما ينسب للمجتهد نفسه، ولا ينسب تفسير بشرى إلى الدين وإنما ينسب إلى المفسر نفسه، ولا تنسب فتوى إلى الشريعة وإنما تنسب إلى من أفتى بها. وعلى الشعب أن يواجه أصحاب الخطاب الدينى بقوله تعالى: «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل:٧٨)، فما تعلمتموه بعد هذا الخروج علموه الشعب بكل صدق وأمانة؛ حتى يتمكن من تعلمه منكم ومن غيركم أن يدير شئونه برؤيته لا برؤية الأوصياء؛ كما قال تعالى: «قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة» (يوسف: ١٠٨) يعنى على استنارة بالعلم المتاح، وكما قال سبحانه: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» (القيامة: ١٤) لأنه الأعلم بشئون نفسه.
أمامنا تجارب الدول الكبرى الناجحة اليوم مع تركيبتها السكانية المعقدة، دينًا وعرقًا ولغة، بسبب التزامها بسنن الله الكونية فى جعل الدين لله والعلم سلاح الإنسان فى إدارة شئون نفسه بالتراضي، وتفكيك الطائفية بالتدريج. وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فى المدينة المنورة التى هاجر إليها وبها تسع قبائل يهودية وعدد من القبائل المسيحية والقبائل العربية على ملة إبراهيم، وأضيف إليهم المهاجرون من مكة بملة الإسلام الخاتم، وصاروا جميعًا شعبًا واحدًا فى مواجهة أعدائه من غير أن تهز وحدته القوية تعدديتهم الدينية والفقهية والعرقية؛ لجعلهم الدين لله حقًا بدون إكراه أو وصاية، وإتاحتهم العلم للجميع فيبلغ شاهدهم غائبهم بدون إخفاء أو تدليس، وإقرارهم سيادة كل إنسان على نفسه، يستفت قلبه وإن أفتاه الناس وأفتوه. وبالتراضى يديرون شئون حياتهم؛ كما أخرج الشيخان واللفظ للبخارى عن النعمان بن بشير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى».