الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

كنائس للبيع بـ"أعلى سعر"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما تنادى الكنائس المصرية بإصدار قانون لبناء الكنائس، وتنطلق وقفات احتجاجية لأقباط يطالبون بتمكينهم من بناء كنائس وفق تراخيص البناء الصادرة لهم، مثلما حدث فى كوم اللوفى بالمنيا، اتجهت بعض المذاهب المسيحية للتنازل عن كنائسها أو عرضها للبيع فى ظاهرة غريبة على مصر.

ورصدت «البوابة» عمليات بيع مختلفة لكنائس وأراضٍ كانت مملوكة لبعض المذاهب المسيحية ومنها مذهب الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، ووقائع صراعات ووضع يد من بعض الأشخاص واعتداء على تلك الممتلكات، وكنائس تم التحايل على القانون لهدمها، وتحولت إلى أراضٍ لتسهيل عملية البيع والحصول على أعلى سعر. كما تنازلت كنائس عن الملكية لكنائس أخرى وخرجت من المناطق التى كانت كائنة بها، بحجة عدم وجود شعب للكنيسة فى تلك المنطقة.
التحقيق يفتح هذا الملف الخطير للتعرف على الأسباب الحقيقية وراء تلك الظاهرة وكيفية التعامل معها.
وفى شارع شريف بمنطقة حلوان، توجد كنيسة «القديس اسبيريدون» التابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس، أو بالأحرى ما تبقى من كنيسة لها تاريخ ممتد لسنوات طويلة منذ احتلال الإنجليز للبلاد، بنيت على مساحة ٤ آلاف و٥٠٠ متر، لتكون محلا للصلوات، قبل أن يتبدل المشهد الآن لتصبح أرضها ملتقى للأصدقاء بعدما استأجر عدد من الأهالى جزءا منها لإقامة المقاهى المفعمة برائحة الدخان وكركرات «الشيشة»، وجانب آخر شُيدت عليه مبان شاهقة للإيجار والتمليك، ولم يبق للكنيسة سوى «الهيكل» والمتواجد فى حيز مبنى جمعية خدمية على مساحة ٥٠٠ متر.

أحد شهود العيان، من مواليد هذا الحى، يبلغ من العمر ٦٩ عاما، روى قصة «بيع الكنيسة»، وقال: أول مرة أسمع فى أوائل التسعينيات أن الكنيسة عرضت المبنى والأرض المرافقة والتى تبلغ مساحتها الكلية ٤٥٠٠ متر للبيع نظرا لظروف طارئة، ولم تكن الكنائس المجاورة لديها قدرة مالية لشراء الأرض آنذاك، بينما تمكن صاحب محل قطع غيار سيارات ـ حسب شاهد العيان ـ من شراء جزء كبير من الأرض، ثم شرع بعد ذلك وخلال فترة زمنية قصيرة، فى بناء عمارات سكنية وافتتاح مقاهى على أرض الكنيسة، تحيط بالتحفة المعمارية العظيمة التى كانت تجسد تاريخا عظيما منذ القرن الماضى، وظلت القاعة الرئيسية للكنيسة التى تضم «الهيكل وجمعية» كمبنى صغير، بلغت مساحته ٥٠٠ متر. 
وأكد الشاهد، الذى فضل عدم ذكر اسمه، أن كنائس عدة بادرت بتقديم عروض لشراء الأرض، ومنها الكنيسة الإنجيلية المجاورة للمبنى، لكنها عرضت مبالغ ضئيلة جدا، وكان لديها أمل أن تحصل على الأرض والكنيسة، لكن البطريرك رفض البيع بالمبلغ الضئيل، وأشار الشاهد إلى أن هذه الأرض وقف مملوك للكنيسة، ولها أوراق رسمية، وقدّر الشاهد قيمة الأرض بما يقرب من ٧٠ مليون جنيه. 
وأضاف: التحفة المعمارية -الكنيسة القديمة- تبدلت وانتهك تاريخها بالمبانى والمقاهى، قبل أن يتساءل مستنكرا: فما الداعى لبيع الأماكن المخصصة للعبادة والتى تحمل تاريخا طويلا؟

وقال مصدر كنسى بالبطريركية الخاصة بالروم الأرثوذكس، إن وضع كنيسة حلوان مختلف عن رواية شاهد العيان، وأوضح أنه كانت هناك مشاكل عدة للكنيسة، وصلت إلى محاولة البعض التعدى على أملاكها، بينما أجرى البطريرك الجديد صيانة للكنيسة، وبدأت الصلوات فيها فى الأعياد والمواسم فحسب، لقلة أعداد المترددين عليها، لكن نظرا لاحتياجات الكنيسة المادية، بدأت تأجير عدد من المحال والعقارات داخل نطاق حدود الأرض المملوكة للبطريركية، لكن ذلك خلف بعض المشكلات ما زالت موجودة حتى اليوم. 
كنيسة أخرى كانت أسوأ حظا من كنيسة «حلوان»، بسبب تحولها إلى «مزرعة لتربية المواشى»، بعد بيعها بطريقة مريبة، وهى القصة التى يرويها مسلمون ومسيحيون من رواد المقهى القريب من كنيسة القديسة دميانة، فى منطقة «رايل» بحلوان.
يقول شاهد عيان: «كانت توجد كنيسة تسمى «القديسة دميانة» فى المنطقة، وفجأة غاب عنها شعب الكنيسة، وبعدها تم إغلاقها، وبعد فترة وجيزة وجدنا المكان تحول من مكان عبادة إلى حظيرة لتربية المواشى، وتم افتتاح مطعم بجوار سور الكنيسة، ثم توسع وأصبح داخل الكنيسة، وتم وضع اليد، وبعد ذلك أنشئت عمارة سكنية فخمة، وتجرى حاليا عملية بيع للشقق فيها وتسليم الشقق المبيعة. 
لم تأخذ عمليات بيع الكنائس الوجه نفسه، ففى بعض الأحيان كانت تحمل رتوشا تجميلية، عبر تحويل مسارها، وتنازلت الطوائف عن مبانيها إلى كنائس أخرى نظرًا لضعف وقلة أعداد رعاياها المصلين.
كنيسة «مار مينا» فى شارع السنترال بمحافظة الفيوم، مثال جيد على هذا الموضوع، فقد كانت مملوكة لكنيسة الأرمن الأرثوذكس وتحمل اسم «القديسة صوفية»، ويرجع تاريخ بنائها إلى عهد الملك اليونانى جورجيوس الأول، وتم تجديدها فى عصر الحاكم المصرى عباس حلمى الثانى، وعهد البطريرك اليونانى فيرتيوس الأول. قبل أن تنقل ملكيتها بالتنازل لصالح مطرانية الأقباط الأرثوذكس فى عام ١٩٨٧، وتم تجديدها وإقامة أول قداس فيها بحضور الأنبا أبرام الثالث أسقف الفيوم وبعض الآباء الكهنة فى أبريل ١٩٨٨.

كما تم تجديد الكنيسة مرة أخرى بعد زلزال ١٢ أكتوبر ١٩٩٢، والكنيسة بها خمسة مذابح: الأوسط باسم الشهيد العظيم مار مينا، والبحرى باسم القديس الأنبا إبرام، والقبلى باسم السيدة العذراء، وبالدور الثانى للكنيسة مذبحان، البحرى باسم القديس الأنبا بيشوى والأنبا بولا الطموهى، والقبلى باسم شهداء الفيوم. وتم تدشين المذابح الخمسة بيد الأنبا أبرام الثالث أسقف الفيوم، والكنيسة تخدم ما يزيد على اثنى عشر ألف مسيحى.
ومن الفيوم إلى أسيوط، وتحديدًا بمنطقة يسرى راغب؛ حيث تم عرض كنيسة مملوكة لطائفة «الأدفنتست» للبيع، ونظرا لعدم وجود مشترٍ من الكنائس التابعة لطوائف أخرى، تم استثمار الكنيسة للمبنى فى عمل دار حضانة، لكن ذلك لم يمنع تأجير عدد من المبانى التابعة للطائفة ذاتها، والتى كانت مفتوحة تحت اسم «جمعيات الأدفنتست فى المنيا والفيوم».
وقال القس أنور إسكندر، الممثل القانونى للكنيسة بأسيوط، إن «بيع الكنيسة مجرد شائعات»، مشيرًا إلى أنه بعد أحداث فض اعتصامى الإخوان فى «رابعة» و«النهضة»، تعرض المبنى الخاص بالكنيسة الكائن فى شارع يسرى راغب لحريق، والقوات المسلحة أعادت إعمارها، وتم افتتاح حضانة فى المبنى، مشيرًا إلى أنه فى ذلك الوقت كنا نمر بأزمة مالية، لكن نعمة الله جددت المبنى بطريقة جميلة، بينما باعت الكنيسة عددا من الشقق وتنازلت عن شقق مؤجرة لحساب طائفة «الأدفنتست».
وقال مصدر آخر بطائفة الأدفنتست: «الحديث حول بيع أو تأجير أو التنازل عن أى كنائس أو جمعيات تابعة لنا، يمثل اعترافًا بقلة أعدادنا مما يهدد بإغلاق جمعياتنا، إعمالا بقانون الجمعيات الأهلية وهو ما سبق وحدث بعدد من منشآتنا».
وأضاف: الطائفة تعمل جاهدة للتوسع والامتداد بالمحافظات، ومنها سوهاج، واشترت قطعة أرض كبيرة وبنت كنيسة جديدة للأقباط الأدفنتست عليها، إضافة للجمعية القديمة المملوكة للطائفة حتى الآن أمام محطة السكة الحديد بالمحافظة.
صورة أخرى بمسلسل «كنائس للبيع»، تتمثل فى كنيسة «السيدة العذراء» بحلوان، والتى وضع حجر أساسها عام ١٨٩٧، فى عهد البابا كيرلس الخامس، ولكن تم استكمال البناء فى عام ١٩١٩ على يد القمص ميخائيل المقارى بعد رجوعه من أثينا، وتم استكمال مساحتها وبنائها بإنشاء مدرسة الرهبان عام ١٩٢٨، وأول رئيس لها القمص ميخائيل مينا، ثم تحولت إلى مدرسة للشمامسة حتى أغلقت تماما دون جدوى أو سؤال.
وبحسب مصادر كنسية، تنقسم الكنائس المعروضة للبيع إلى ٣ فئات:
الأولى: كنائس مهملة ومتروكة وأصبحت بلا متعبدين، ما يدفع بعض الأشخاص للاعتداء على أراضيها بوضع اليد وتزوير أوراق ملكيتها لتسهيل بيع هذه الأراضى مثلما حدث فى كنيسة القديسة دميانة، وهو ما تطابق مع حديث شاهد العيان بالمنطقة.
الثانية: كنائس يتقلص بها عدد المتعبدين وتتعرض لأزمات مادية واقتصادية صعبة تضطرها للتنازل عن مبانيها فى مناطق ليس لها شعب، والبحث عن مكان آخر به شعب يؤمن بالمعتقد نفسه.
الثالثة: كنيسة تغلق وتنتهى خدمتها بلافتة مكتوب عليها اسم الكنيسة وتاريخ الإنشاء وحولها كوم قمامة وحول الباب قفل حديد يأكله الصدأ.

وعن أزمة عرض الكنائس للبيع، يقول المفكر القبطى كمال زاخر، منسق التيار العلمانى بالكنيسة، إن هذه الظاهرة تمثل مشكلة تحتاج إلى مراجعة سريعة؛ لأن البدائل خطيرة جدا، والظرف حساس، ولا بد من معالجة الأمر بحكمة، وأضاف أن هناك كنائس مرت عليها ١٠٠ سنة، وبالتالى ستصبح ملكية قومية ويجب أن تتحول إلى إشراف وزارة الآثار، حسب القانون، للحفاظ على التراث المصرى لأنها تشكل جزءا منه.
من جانبه، قال سليمان شفيق الكاتب الصحفى والباحث بالشأن القبطى: الكنيسة هى جماعة المؤمنين، وهم المستهلكون لبضاعة كل كنيسة أى عقيدتهم ولاهوتهم، وإذا اندثر أعضاء الكنيسة أصبح المبنى لا معنى له، لذلك ٧٠ ٪ من كنائس أوروبا تباع وتتحول إلى ملاهٍ ليلية وخمارات، ولكن بالنسبة لمصر وبسبب الوازع الدينى تشترى الطوائف المسيحية المختلفة كنائس بعض.
وأضاف: ما يجرى ظاهرة عادية وقديمة؛ فمثلًا كان فى مصر عام ١٩٤٧ مائة ألف يهودى، وكان لديهم أكثر من ٣٢ معبدًا، ولكن بسبب اندثار اليهودية أصبح اليوم لهم معبد واحد.
وأوضح أن معظم الكنائس التى تم بيعها تابعة للروم الأرثوذكس أو الروم الكاثوليك أو الأدفنتست، وأصحاب هذه المعتقدات لم يروا مشكلة فى بيع الكنيسة وعدم الحفاظ عليها لأن أعدادهم تقلصت، فمثلًا فى محافظة المنيا نجد كنيسة «مار يوحنا» كانت مملوكة للروم الأرثوذكس، والأنبا موسى روم أرثوذكس ولكنهم تنازلوا عن هذه الكنائس إلى كنائس أخرى.

وطالب شفيق بتطبيق القانون ونقل المسئولية عن أى مبنى أثرى تجاوز عمره ١٥٠ عاما إلى الآثار، ومنع بيعه، واختتم حديثه قائلا: «إن المسيحيين فى مصر فى زيادة، بينما المذاهب المسيحية تضمحل».
وفى السياق نفسه، قال مدحت بشاى الكاتب الصحفى: إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اشترت كثيرا من الكنائس والأديرة المملوكة للروم الأرثوذكس، فى إطار اتفاقيات ثنائية بين الكنيستين، وهذا أفضل من أن يشترى الكنائس رجال أعمال أو أشخاص وتتحول من كنائس إلى أى مشاريع تجارية.
وأشاد بالدور الوطنى الذى تقوم به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى الحفاظ على تاريخ الكنائس الشرقية الأخرى.
وفى السياق ذاته، قال الباحث الدكتور رامى عطا: إن هذه الظاهرة تكررت مع كنائس عدة، مثل: كنيسة السيدة العذراء والأنبا بيشوى الكائنة فى شارع الجيش، والتى كانت مملوكة للروم الأرثوذكس، وكنيسة ماريوحنا بالإسكندرية وهى كنيسة لها طابع خاص محاطة بسور وبداخلها قطعتان أو مبنيان، والأول أصبح ملكا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والثانى مملوكا لإحدى الجاليات الأجنبية، ومعروضة للبيع الآن بسعر كبير، مما جعل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى الإسكندرية تحاول جمع هذه المبالغ لشراء هذه الكنيسة.
ورأى عطا أن تنازل الكنائس عن مبانيها إلى كنيسة أخرى يحتاج شعبها إلى أماكن للعبادة، أمر جيد، وقال: هذه الظاهرة قديمة ومع دخول المسيحية لمصر تحولت بعض المعابد الفرعونية إلى كنائس، مثل: الدير البحرى حتشبسوت، والذى تحول من دير فرعونى إلى كنيسة ثم إلى أثر مرة أخرى، وأيضا المعبد اليهودى الكائن ما بين السبع كنائس فى مصر القديمة، كان كنيسة، ويطلق عليها كنيسة «الملاك ميخائيل» للأقباط الأرثوذكس، ويحكى أنهم لم يستطيعوا دفع الجزية فاضطروا إلى بيع الكنيسة إلى شخص يهودى يدعى «بن عذراء»، وهو حوّل الكنيسة إلى معبد يهودى وقائم حتى الآن.