الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

23 يوليو 1952 "الثورة من أعلى"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الثورة تبدأ بفكرة، وتتغذى تلك الفكرة من واقع الظلم السياسى والاجتماعى من حولها، وتكبر وتزداد ككرة الجليد وتزيد معها الرغبة فى التغيير، وفى عالمنا المعاصر كان للثورات النصيب الأكبر فى إحداث التغييرات السياسية والاجتماعية وإعادة تشكيل الخرائط السياسية؛ فالولايات المتحدة الأمريكية ظهرت ككيانٍ مستقل نتيجةً لثورتها على الاستعمار البريطانى عام ١٧٧٦، كما ظهر الاتحاد السوفييتى كنتيجةٍ مباشرة للثورة البلشفية على روسيا القيصرية عام ١٩١٧، ومرت دولٌ أخرى كالصين واليابان والهند ودول أمريكا اللاتينية وإفريقيا بثوراتٍ مماثلة، كما قامت معظم دولنا العربية بثوراتٍ أبرزها ثورة العشرين (١٩٢٠) فى العراق، والثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى والثورة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي؛ فالثورات كانت وسيلة هذه الدول لتشكيل العالم الجديد الذى نحياه الآن.
وقد كان لمصر نصيبٌ وافر من الثورات فى التاريخ الحديث والمعاصر أبرزها ثورتا القاهرة الأولى والثانية ضد الاحتلال الفرنسى لمصر (١٧٩٨-١٨٠١)، وثورة عرابى فى العام ١٨٨٢ ضد الخديو توفيق فى مشهدٍ ولا أروع لثورة الجيش ضد حاكمٍ مستبد اعتقد خطأً أن مصر شعبًا وأرضًا ليست سوى تراث أو عقار تركها له آباؤه وأجداده، وهى الثورة التى انضم لها الشعب وانتهت بالاحتلال البريطانى لمصر لأسبابٍ عديدة ليس هذا موضع ذكرها. كما تمثل ثورة ١٩١٩ ثورة شعبية بامتياز، وهى التى أفضت إلى دستور عصرى وهو دستور ١٩٢٣، والذى تم استبداله بدستور إسماعيل صدقى عام ١٩٣٠، ورغم شعبية حزب الوفد فى تلك الفترة، إلا أن الملك كان غالبًا ما يستخدم صلاحياته الدستورية بإقالة حكومة الوفد (حكومة الأغلبية) ويأتى بحكومات أقلية يستطيع أن يوجهها كيفما يشاء، وهو الأمر الذى زادات وتيرته بشكلٍ مُبَالغ فيه قبيل قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، حيث شُكلت وزاراتٍ كثيرة كان بعضُها لا يمكث سوى أيامٍ معدودات فى انكشافٍ واضح للأوضاع السياسية المتداعية، وألاعيب حزب الوفد السياسية التى أدت به إلى التحالف مع الإنجليز ضد القصر، وإجبار الملك فاروق على تكليف مصطفى النحاس بتشكيل الحكومة بعد محاصرة الدبابات الإنجليزية للملك فى قصر عابدين (٤ فبراير ١٩٤٢)، وهو ما تم وصفه بأن الوفد جاء إلى الحُكم على ظهر دباباتٍ إنجليزية.
وقد هالنى ما ذكرته باحثة فى رسالةٍ علمية ناقشتها مؤخرًا من أن ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كانت انقلابًا عسكريًا، وهو ما لم يُذكر فى التاريخ المصرى الحديث ومتابعة صحف تلك الفترة والتى تُعد وثائق تاريخية كما علمنا أستاذنا ومؤرخنا الكبير الراحل د. يونان لبيب رزق وهو أول باحث فى تخصص التاريخ يعتمد على الصحف كوثائق تاريخية، وقد استخدمت صحف ذلك الزمان مصطلح «حركة الجيش» للإشارة إلى ما وقع من أحداث يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ثم سُرعان ما أطلق عليها مصطلح «ثورة» عندما انضم الشعب المصرى لها باستثناء الإقطاعيين والذين أثروا من التعامل مع الاحتلال الإنجليزى وأمراء الأسرة المالكة وطبقة النبلاء. 
وللأسف حتى يومنا هذا يُطلق بعض المُعادين لثورة ٢٣ يوليو على هذه الثورة مصطلح «انقلاب» مثلما يُطلق المعادين للسادات على ثورة التصحيح (١٥ مايو ١٩٧١) مصطلح «انقلاب مايو» وهو ما عارضته بشدة فى مناقشة حادة مع صحفى مخضرم فى مطار برلين فى طريقنا إلى مطار هامبورج بألمانيا فى أكتوبر من العام ٢٠١٠، وهو أيضًا ما تحاول جماعة الإخوان الإرهابية وقطر وتركيا وبعض أبواقهم الإعلامية أن يُلصقوه بثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ التى أزاحت هذه العصابة المجرمة من سُدةِ الحُكم فى مصر.
وحتى يتم حسم هذا اللغط بشكلٍ علمى ومنهجى يجب أن نحتكم إلى أنواع الثورات وتقسيماتها وفقًا لما اتفق عليه الباحثون فى علم الثورات وأبرزهم د. خالد زكى أبوالخير فى كتابه المهم «الصحافة والتمهيد للثورات» والصادر فى العام ٢٠١٥؛ فالثورات حسب مصدرها تنقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة هى:
- الثورة من أعلى: وهى ثورةٌ تحركها وتقوم بها مجموعة من القوات المسلحة، رغبةً فى الإطاحة بالحكومة، وإحكام السيطرة على وسائل الإعلام فى الدولة، ووسائل المواصلات، ومحطات الكهرباء، وكل المبانى الحكومية ذات الأهمية فى العاصمة.
- الثورة من الأسفل: وهى ثورةٌ تقودها الجماهير، التى تكون قد وصلت إلى ذروتها نتيجة استيائها ومعاناتها مما يدور من حولها فى الدولة، كما أن هذه الجماهير يحركها التفاوت الطبقى الكبير الذى يشهده مجتمعها والذى يُخلف صراعًا مجتمعيًا عنيفًا.
- الثورة المشتركة: وهذا النوع هو نتيجة لاتحاد النوعيْن السابقيْن، وهو يعنى قيام الثورة بمشاركة القوات المسلحة والشعب معًا. 
ومن هنا، فإن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، تُعد «ثورةً من أعلى» قام بها تنظيم «الضباط الأحرار» من أبناء الجيش المصري، والذين كانوا يتطلعون إلى تحرير وطنهم من ربقة الاستعمار وفساد الحُكم وتردى الأوضاع السياسية وزيادة التفاوت الطبقى وغياب العدالة الاجتماعية، ثم التحق الشعب المصرى بهذه الثورة وآمن بها وبأهدافها، وحققت له كثيرًا من تطلعاته الوطنية والاجتماعية.
أما ثورتا ٢٥ يناير ٢٠١١ و٣٠ يونيو ٢٠١٣ فهما ثورتان مشتركتان قام بهما الشعب المصرى وتعهدهما الجيش بالحماية، ولولا القوات المسلحة ما نجحت هاتان الثورتان، وهذا يختلف مثلًا عن ثورة ١٩١٩ التى كانت «ثورة من أسفل» قامت بها الجماهير وقادتها حتى تحققت مطالبها فى عودة سعد زغلول ورفاقه من أعضاء الوفد المصرى من المنفى.
والظاهرة اللافتة التى يجب تسجيلها فى هذه السبيل هى ظاهرة «لصوص الثورات»، ففى الثورات الثلاث المصرية الأخيرة نلحظ أن جماعة الإخوان حاولت سرقتها جميعًا؛ ففى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ حاولت جماعة الإخوان سرقة الثورة بإلباسها ثوبًا دينيًا حيث سك سيد قطب مصطلح «حركة الجيش المباركة» حيث أضاف كلمة «المباركة» إلى «حركة الجيش» وهو المصطلح الذى كان يُستخدم وقتها، وحاولوا أن يدلفوا إلى حكم البلاد من بوابة اللواء محمد نجيب، وهو ما أدى إلى أزمة مارس ١٩٥٤، وإزاحة نجيب من سُدة السلطة لحماية الثورة والهوية المصرية، ومن هنا حدث الصدامان الشهيران بين الجماعة وناصر فى ١٩٥٤ و١٩٦٥. كما قام الإخوان بسرقة ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ والتى لم يشاركوا فيها منذ البداية ولم يقوموا بالدعوة إليها، وكادوا أن يُفلتوا بفعلتهم لولا استرداد الشعب لثورته فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
والغريب أن الإخوان يطلقون على ما حدث فى ٢٥ يناير ٢٠١١ «ثورة»، فى حين يُطلقون على ما حدث فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ «انقلابًا»، على الرغم من أن كلتا الثورتيْن قامت بهما الجماهير العريضة من الشعب المصرى وحماهما الجيش، وأن «اللواء» عمر سليمان هو الذى أعلن بيان تنحى مبارك، وأن «الفريق أول» عبدالفتاح السيسى هو الذى أعلن بيان تنحية محمد مرسى عن الحُكم بعد ثورة الشعب عليه.
ولكن من الواضح أن الإخوان ليس لديهم تعريفٌ منهجى وعلمى لمفهوميْ «الثورة» و«الانقلاب»، ولا ينظرون إلى مفهومهما سوى من منظور المصلحة، وفقًا لمقولة خيرت الشاطر الشهيرة «ندور وراء المصلحة حيث دارت»، لذا فإن الإخوان يُطلقون على ماحدث فى ٢٥ يناير «ثورة» لأنهم حققوا مصلحتهم المباشرة فى الوصول إلى الحُكم بامتطاء هذه الثورة، ويُطلقون على ما حدث فى ٣٠ يونيو «انقلابًا» لأن الشعب ثار عليهم وأزاحهم عن الحكم بمشاركة القوات المسلحة المصرية التى انحازت للشعب المصرى فى ثورتيْه الأخيرتيْن، وهو ما يعكس الانتهازية السياسية لجماعة الإخوان، وهى مرضٌ عُضال لم ولن تبرأ منه الجماعة.