الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إيران والغضب المنتظر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التاريخ، جسد حي، له قوة سحرية، قادرة على أن تشعل همّة الشعوب، تحدوها نحو التقدم، لكنه قابل للإصابة بفيروس الجنون المدمر. 
أدولف هتلر كان الفيروس الذى ضرب ألمانيا من مسام وهم التفوق على البشرية. عبأ الشخصية الألمانية الممتلئة بموروث فكرى وفلسفى وعلمي، وإرادة وجلد فى الإبداع والعمل. استطاع أن يبدع آلة حربية فى سنوات قليلة بعد انكسار شامل وكامل فى الحرب العالمية الأولى. لكنه فى سنوات قليلة حوّل ألمانيا إلى مسلخ لقتل عشرات الملايين من البشر. دمر ألمانيا وساق شبابها إلى ساحة الفناء، نفّذ أكبر مذبحة عرفتها البشرية عبر التاريخ.
نسج أسطورة مختلقة سماها الجنس الآرى الذى هبط من السماء وحط فوق آسيا، وتسرب عبر العصور إلى ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية كما يقول فلاسفة النازية. وظف الدين بلون عنصرى شاذ، عقف الصليب. استدعى من الماضى فزّاعات الخوف والتخويف المفرط. رسم ألوانًا من الأمل الوهمى للشعب الألماني. صناعة الكوارث الكبيرة، تحتاج إلى تقنية التسميم التى تبطل فعل العقل، كما تبطل الأفعى قوى فريستها.
كيف تمكن «الشاويش» هتلر المعتوه من السيطرة على شعب العلم والإبداع والعمل والفلسفة؟ الشعب الذى قدم للدنيا نيتشه، وفيخته، وهيغل، وكارل ماركس، وأينشتاين، وكانط، وبرونو باور، وروزا لكسمبورغ، ولايبنتيس، ويوهان جوتفريد؟
صناعة الوهم لها معملها الخاص. إعادة صناعة العقل ذاته، ليس تغيير محتواه بل إزالة البوتقة ذاتها التى تحتوى ما كان من متراكم فكرى وثقافى وقيمي. كسر منظومة القيم الثابتة التى تؤسس لفعالية الضمير، بمعايير توافق عليها المجتمع عبر السنين. ويمكن أن نقول بقاعدة فاعلة وهى «إذا أردت أن تسيطر على مجتمع ما، اكسر منظومة قيمه». ذاك ما فعله كل الديكتاتوريين عبر التاريخ القديم والحديث.
كيف؟ العدو.. هو القاعدة الخرسانية الصلبة التى تُبنى عليها التعبئة الشاملة لقطاعات الشعب، من أجل مواجهة سؤال الوجود. اختيار كيان آخر يعيش معك أو مجاور لك، وإقناع العامة أن وجوده يتعارض مع وجودك. ولا بد من إزالته أو قهره والسيطرة الكاملة عليه.
سماء أحلام الطموح العالية.. تصوير القادم أنه الفردوس المضمون، يستحق التضحيات، واستدعاء التاريخ الذى يجسد مجد الأمة، وكرامتها وحقها فى أن تتقدم على الآخرين، العنف.. العنف الشامل، ابتداء من قمع أى رأى مخالف وممارسة أشد أنواع التنكيل به ووصمه بالخيانة ومرورًا بالعنف اللغوي، وهو من أخطر أنواع العنف الذى يستعمله الديكتاتوريون، فاللغة كما يقول جان جاك لوسركل، «هى جسم قبل أن تكون ممارسة، إنها جسم من الأصوات». اللغة شحنات تفجر هوس الوعيد وتلون أحلام الوعد.
الكارثة.. كل الأنظمة الديكتاتورية انتهت بكارثة عليها وعلى شعوبها.
هذه المقدمة أردتها أن تكون جسرًا من الضوء أعبره لأصل إلى إيران اليوم، فمنذ وصول الخمينى إلى السلطة فى إيران سنة ١٩٧٩ لم تتوقف المغامرات السياسية والعسكرية والأيديولوجية العابرة للحدود. كان المال المسلح هو الوعاء الحامل لكل تلك المغامرات.
جاء الإمام الخمينى بمشروع فكرى وسياسى مؤسس على المذهب الشيعى الاثنى عشري. للمرة الأولى فى التاريخ تقوم دولة دستورها مكتوب بلغة الغيب، وحاكمها فى الغيب «المهدى المنتظر» الإمام الحاكم الغائب. وكان السؤال العملي: من يحكم الحاضر فى غيبة المنتظر؟ كان الجواب، الفقيه يمثل الغائب على الأرض.
الثورة الخمينية ثورة رسولية عابرة للحدود، لكن الرسالة موصوفة، لها محتوى دينى مشحون بعبوات طائفية، بغلاف ثورى «انقلابي» كما يسمى باللغة الفارسية.
إيران هبة التاريخ وسجين الجغرافيا المؤبد. الدين هو الحبل السرى الذى يجعل الاثنين ساقين لهما قدرة الحركة فى الزمان والمكان. قبل الإسلام كانت الفلسفة الغيبية هوية ومعتقدًا، وبعد الفتح الإسلامى تغيرت العقيدة، وزادت سطوة الجغرافيا، وبدأ الفصل الثانى من التاريخ.
الدولة الفارسية التى قارعت الإمبراطوريات القديمة أصبحت أرضًا يحكمها العرب المسلمون من المدينة المنورة ودمشق وبغداد. كان للفرس دورهم الكبير فى بناء الحضارة الإسلامية بكل فروعها. لكن الموروث العرقى لم تذره رياح السنين والقرون.
أصوات عالية ترتفع فى إيران اليوم تقول: تتكون الأمة الإسلامية من شعوب أساسية ثلاثة، هم العرب والترك والفرس.
حكم العربُ المسلمون قرابة عقود ستة. والأتراك قرابة الخمسة، الشعب الوحيد من هؤلاء الثلاثة الذى لم يقد الأمة الإسلامية يومًا هو الشعب الفارسي. ويضيف هذا التيار الإيرانى الذى تتزعمه نخبة من المثقفين الإيرانيين اليوم، أن الشعب الفارسى كان هو الأجدر بقيادة المسلمين من العنصرين العربى والتركي. العرب كما يرى هؤلاء لا ميزة لهم ترفعهم عن الآخرين سوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، والقرآن نزل بلغتهم. أما الأتراك فلم يمتلكوا عبر التاريخ سوى احترافهم للعنف والقتال. أما الفرس فهم من صنع الحضارة الإسلامية فى كل المجالات وفى كل العصور الإسلامية، فى العلوم، والفلك والطب والفلسفة والدين واللغة وغيرها. وهم الشعب الأغنى بالحضارة والثقافة. 
غاب عن هؤلاء أن الإمبراطوريتين الأموية والعباسية خصوصًا الثانية لم تكونا عربيتين بالمفهوم العرقي، فقد ساهم الكثير من الفرس والترك فى قيادة هذه الإمبراطورية، وكانت هوية الدولة من الناحية السياسية والاجتماعية إسلامية بالدرجة الأولى.
من المستحيل اليوم قيام إمبراطورية تحت أى عنوان أيديولوجى دينى أو غير ديني، إيران تعى ذلك، لكنها تريد أن تكون طهران مركز قيادة لمجال جغرافى يكون أطلسه بخطوط وألوان إيرانية عقائدية.
إيران تدرك أن ما تعتبره محرك قوتها هو حلقة ضعفها. فأتباع المذهب الشيعى لا يشكلون أكثر من ٩ فى المائة من مجموع المسلمين فى العالم، وهذا يجعل تصدير أيديولوجيتها خارج نطاق الشيعة مستحيلًا، بل إن كثيرًا من الشيعة يرفضون فكرة ولاية الفقيه وما يُبنى عليها. 
إيران أرهقت نفسها ماليًا وعسكريًا وسياسيًا بتمددها وتدخلها فى ساحات مضطربة ومعقدة. وسيطرة الحرس الثورى الذى يحمل بضاعة الثورة خارجيًا هيمنت على مفاصل الدولة داخل إيران، وتغول فى المصروفات المالية السرية، هيمن على الإدارة والاقتصاد، أصبح دولة فوق الدولة. الفقيه «المرشد» فوق الدستور والقانون، ورئيس البلاد لا يعرف مكانه فى حلبة القرار. الضائقة المالية التى تعانى منها البلاد فقرًا وبطالة تتحول إلى غضب قابل للانفجار عندما يرى العاطلون والفقراء أموال بلادهم ودماء أولادهم تهدر من أجل إمبراطورية الوهم التى رسمها رماد التاريخ فوق أطلس جغرافى لإمبراطورية ستأتى مع المنتظر.