الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

"الحَرّ نعمة واللي يكرهه يعمى".. "كفافي" ساقي محطة مصر: يا ريت السنة كلها صيف.. أبيع كيس الثلج بـ"2 جنيه" وزبائني كل عمال الرصيف والمسافرين.. وأعول أمي و2 من الإخوة بعد الانفصال عن والدي

عمر كفافي
عمر كفافي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

درجات الحرارة مرتفعة، والرطوبة تنافس الطقس في حبس أنفاس كل من يسير في الشارع، والكل يحاول صلب ما تبقى من طوله تحت أشعة الشمس الحارقة، والتي تهبط من السماء كما تهبط السهام على رءوس الأعداء، ولكنها سهام النار تزيد من لهفتك إلى شجرة أو "كولدير" مياه باردة يخفف من حدة ذلك الحر الذي يفترس الجميع، خاصة لو كان في زحام كما هو الحال على رصيف الصعيد بمحطة قطارات مصر، فالكل يهرول يمينًا ويسارًا بحثًا عن تذكرة لقطار قارب على الوصول، وآخر يبحث عن صديقه الذي ينتظره ليستقلوا القطار، ومن يصرخ بحثًا عن الكمسري ليطالب بتشغيل تكييف القطار، وبين كل هذا الصراخ يبزع "كفافي" صارخًا: التلج بـ2 جنيه يا عالم يا حرانة".


عمر كفافي.. شاب ينتمى لإحدى قرى العياط بالجيزة، يعمل منذ أن بلغ الثالثة عشرة من عمره، أي منذ 5 سنوات، حيث تنقل بين صبي ميكانيكي إلى مساعد فرارجي، ومسئول نظافة أمام محل بقالة، حتى انتهى به المطاف على رصيف محطة مصر ليبيع أكياس من الثلج للمسافرين، فبعد جلسة جمعته بأخوته محمود ومندي، اقترح عليهما ملئ كل ما لديهم من أكياس بالمياه، وإيداعها "فريزر" الحاج سلامة صاحب محل بيع اللحوم المجمدة بالقرية، حتى تصبح أكياسًا من الثلج، ثم يبيعها للمسافرين بموقف أحمد حلمي ورصيف الصعيد بمحطة مصر.

بدهشة شديدة يتحدث عمر ليقول: أنا لم أفعل شيئًا، الجو هو من فعل كل شيء، كل ما فعلته شيء بسيط ومطلوب في نفس الوقت، فأنا جمعت إخوتي وبدأنا نملأ الأكياس بالمياه ثم نودعها المُجمد حتى تصبح كرة ثلج، ثم نشتري لوح ثلج كامل، ونقوم بتكسيره داخل وعاء حتى يمكن حفظ الثلج كتلة واحدة دون أن تتفكك داخل الأكياس، حتى يتسنى لنا بيعها للمسافرين أو للعمال أو الشيالين، فالرصيف هنا عالم كامل متكامل، هناك من يبيع الأكل والشرب بكافة مستوياته، وهناك من يبيع المشروبات الساخنة والباردة بكافة أنواعها، ولذلك قررت بيع ما هو غير موجود "كيس تلج" وبجنيه واحد فقط.

ويتكئ كفائي على قدميه ليجلس في وضع القرفصاء، ليكمل حديثه عن مشروعه قائلًا: الفكرة وما فيها إننا في البيت 3 أولاد وأم لا تقوى على الحركة بشكل كبير، فكيف لها أن تتحرك وهي مصابة بمرض القلب، وهي في نفس الوقت لديها ثلاثة "رجالة"، صغار في السن ولكننا نعلم جيدًا كيف نشد الجنيه، فنحن من الذين يبيعون الأقلام لطلاب كليات الشرطة، وكلما سمعنا من أي فرد بالمنطقة عن تقديمات للشقق مثلا أو قرعة الحج هرولنا إلى مكان التقديمات لبيع الأقلام والدوسيهات، كما أنني عملت في محلات العصير والمقاهي وبيع المناديل وغيرها من المهن التي أمتهنتها في الأجازة، والدراسة أحيان أخرى، فكلما نحتاج شيء لا يعوضه ما يرسله أبي لنا شهريًا منذ انفصاله عن أمي، نتولى أنا واخوتي مسئولية تعويضه.


ويكمل كفافي: الناس في مصر دائمًا ما يقولون إننا أقل الناس، فأنا أسمع المسافرين في المحطة أو حتى الناس في الشارع عن الصين التي توزع قطع غيار الساعة ثم يجمعها الأطفال ليجمعوها آخر النهار، وكنت أسمع أيضًا عن الصناعات التي تنتجها الدول من خلال عمل مواطنيها فقط، وأنا لا أشعر أنني أقل من أي فرد فيها، فأنا أجمع الأكياس وأبيعها كأكياس ثلج، والحمد لله رواج الموضوع في زيادة مستمرة.

وعن العمل يقول كفافي: سوق التلج في مصر هذه الأيام مزدهر بشدة، فبدلًا من أن يشتري الناس زجاجة مياه معدنية، أو يخرج خارج المحطة ليملأ كوب ماء بارد مثلًا، فشراء كيس ثلج من كفافي يكمل "مائدة الغداء" التي لا يتناول غيرها بانتظام كل من يعمل في المحطة، وخاصة رصيف الصعيد، الذي يشرب كون الشاي صباحًا ليتمه بمائدة الفول والجبنة الساعة الثانية بعد الظهر، وهنا تتعالى الأصوات على كفافي لإحضار كيس الثلج، الذي لا يكلف طالبه سوى "جوز جنيهات" وحتى يجهز الجالسين على الفول والجبنة يكون كيس الثلج قد أصبح مياه في غاية البرودة يمكنها أن تثلج صدورهم استعدادًا لعمل شاق جدًا في حمل الحقائب للمسافرين من ناحية، وتحمل الحر في الأكشاك وسط مناهدة الركاب على أسعار الجرائد والمشروبات الساخنة.

ويتابع كفافي: الموضوع لا يتوقف عند هذا الحد، بل يصل أحيانًا إلى شراء من هم في سني لأكياس الثلج لإسقاط حبات العصير التي تندمج مع المياه، وآخرون يشترونها من أجل غسل وجوههم بالثلج، فالجو يجعل أقصى طموح أي شخص هو "ترطيب جسمه"، وهو ما جعلنا نجمع 500 جنيه في الشهر، فأنا لا أتمنى لموجة الحر أن تنكسر أبدًا، لـأنني سأكون مضطرا وقتها إلى البحث عن فكرة جديدة تجلب لنا المال.