الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

باسكال صوما تكتب: أنا وبيروت لا يمكن أن نتصافح!

الكاتبة اللبنانية
الكاتبة اللبنانية باسكال صوما
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سأخبرك اليوم عن الملل، ليس تمجيدًا للملل، لكن لاعترف بلا مراوغة أن لا شيء أقوى من الملل في هذه البقعة الفضائية، حيث أنا. لا، ليس الأمر متعلّقًا بالفراغ والتكرار والروتين، عليك أن تعرف أن الملل لا يأتي من الروتين، الملل يأتي من أي مكان، من الحب، من الأصدقاء، من الحمقى، من الذكريات، من العمل، من البطالة، الهاتف، الكومبيوتر، الجدار الأبيض، الثقب غير المرئي، الرغبات وموتها وتبدّلها، الملل ليس واضح الأسباب إلى الآن، وأتمنى كثيرًا لو يكون أول اهتمامات السادة الفلاسفة في هذا الجيل، (أبدو واقفةً على منبر أطالب السادة الفلاسفة، يا إلهي! هذا مثيرٌ للسخرية).

تقول صديقتي، إن الزمن توقف في رأسي عند نجاة الصغيرة، وأنا أضحك، لأنني لا أحبّ شيئًا كما أحبّ صوت نجاة، نجاة تساعدني كثيرًا في هذه الأيام، صوتها معاكس للملل.

الراديو بليد وأخباره مقيتة. أسكته قليلًا. ثمّ أمل وأعيده إلى الحياة. الحرّ كثير. بيروت لا تطاق في الصيف. تتحوّل إلى حمام تركي غير ممتع. حمام من المختنقين والمتلاصقين والسبابات الخارجة من أجسادهم. الأجساد أحيانًا تتقاذف الشتائم برشاقة.

لا أحبّذ البحر من أجل السباحة. وهذه مشكلة. قد تكون مشاوير السباحة مسلية ومخففة الملل في الصيف. لكنني لا أتحمّس لها. فلأعترف، أنا لا أتحمّس لشيء في هذه الأيام. لا أعرف ما هي هذه اللعنة التي تجعل كل ما يحصل عاديًا وتافهًا. على سيرة التفاهة، ربما يكون من الجدير قراءة "حفلة التفاهة" لحبيب قلبي ميلان كونديرا. أتذكّر أني قرأت هذا الكتاب وأنا بغاية الملل. ربما تكون القراءة الثانية مفيدة. بعد أول كتابٍ قرأته لكونديرا "كتاب الضحك والنسيان"، قلتُ إنه حبيبي، الأمر ذاته حصل مع محمد الماغوط، ثم مع ماياكوفسكي. بعد ذلك مللت. حتى الكتب تسبب الملل. مكتبتي تقف متصبّرةً منذ فترة، تودّ لو يدخل أحدٌ ويقول "به" أو يأخذ ورقة، أو يبدّل ترتيب الكتب. منذ أسبوعين طلبت قريبتي بعض الكتب، ذهبت وأخذت عشرة كتب أو أكثر أو أقل، لا أدري ولم أسأل ولم أكترث، أمس كنت قريبةً من المكتبة، كانت الكتب مبعثرة بعض الشيء. أنا أعرف كتبي وأعرف كيف الأسماء مرتبة قرب بعضها. أنا لا أخطئ في ذلك. انفعلت قليلًا ثم نسيت ومللت ومللت.

بيروت تزداد خنقًا وزحمةً وأبراجًا. وأنا أخشى الأبراج، تمامًا كفوبيا القطط التي ترافقني منذ عشرين سنة تقريبًا. أحس بأن الأبراج ستقع عليّ. أو سأجد نفسي مخنوقةً فيها، محترقة من الأشعة والملل والصدى. تخيّل ما أقبح الصدى في مثل هذه الأوقات. تأتيني كوابيس أحيانًا من هذا القبيل. أقوم أغسل وجهي، ثمّ أعود إلى الملل المعتاد.

أنا وبيروت لا يمكن أن نتصافح في أي صباح. أظننا متشابهين إلى درجة النفور. تكون كل المدن ربما مليئة بالتناقضات، بالتداخل الشرس بين العناصر، بهذا الحر وذاك المطر الملتصقين على وجهٍ واحد. لكن لا يمكن أن تكون المدينة التي يسكنها كل واحدٍ منا ككل المدن، حتى إن لم تتحول قط إلى مدينة تخصّه، أو تحرّك فيه شيئًا من الحب.

نعم نعم، قلت سأخبرك عن الملل ثمّ غرقتُ في بيروت. حسنًا، ستعتقد أنني أملك وقت فراغٍ كثيراً، يكبّلني بالملل. تحليل خاطئ. قلتُ لك الملل يأتي من أي مكان. حتى حين تكون مغرمًا أو مريضًا أو شديد الانشغال أو غاضبًا أو بائسًا أو ناقمًا أو ناسيًا أو متناسيًا أو أي شيء... قد تشعر بالملل. سأقول لك أمرًا بعد، الشعور بالملل يشبه كثيرًا اللاشعور. المشاعر التي تأتي تارةً هنا وطورًا هناك تجاه الأحداث والأشخاص، يحدث أحيانًا ألا تأتي أبدًا، ويكون ملل وملل وملل، أو ما شابه.