رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا «6»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترك عصر «التنوير» الفرنسى أثرًا قويًا فى فكر «رفاعة الطهطاوي»، فقد تعرف -خلال بعثته إلى فرنسا- على مظاهر الحياة الأوروبية وإنجازاتها العلمية فى كل المجالات، واكتسب معرفة دقيقة باللغة الفرنسية وبمشاكل ترجمتها إلى العربية، وطالع كتبًا فى التاريخ القديم والفلسفة اليونانية ودرس الأساطير والجغرافيا والرياضيات والمنطق؛ كما قرأ سيرة «نابليون- Napoleon» (١٧٦٩-١٨٢١)، وبعض أشعار «راسين- Racine» (١٦٣٩-١٦٩٩)، ورسائل اللورد «تشسترفيلد- Chesterfiel» إلى ابنه ﭬيليب، كما تعرف على كبار فلاسفة القرن الثامن عشر مثل «ﭬولتير» و«كوندياك- Condillac» (١٧١٥-١٧٨٠) وأفكار «روسو» عن العقد الاجتماعى وأهم مؤلفات «مونتسكيو»، لم تكن هذه الأفكار غريبة على من تربَى على تراث الفكر السياسى الإسلامي، كالقول بأن الإنسان يحقق ذاته كعضو فى المجتمع، وبأن المجتمع الصالح هو الذى يهيمن عليه مبدأ «العدل»، وبأن غاية الحكم خير المحكومين، أضف إلى ذلك نظرة «روسو» إلى المُشَرع، ذلك الإنسان الذى يستنبط بمهارته العقلية الشرائع الصالحة، والذى يستطيع أن يعبر عنها برموز دينية يمكن لعامة الشعب فهمها والإقرار بصحتها، هذه النظرة لم تخل من بعض التجانس مع أفكار الفلاسفة المسلمين حول طبيعة النبى ورسالته، لكن هناك أفكار جديدة يمكن أن نلمس أثرها فى كتابات «الطهطاوي» كالقول بأن الشعب يمكنه أن يشترك فى الحكم، ومن الواجب تهذيبه من أجل هذه الغاية، وبأن الشرائع يجب أن تتغير بتغير ظروف العصر؛ هذا فضلًا عن فكرة «الأمة» التى لعله استقاها من «مونتسكيو» الذى ذهب إلى أن قيام الدول وانهيارها يخضعان لأسباب معينة، وأن هذه الأسباب تكمن فى «روح الأمة»، كذلك قوله: «على المُشَرع أن يتبع روح الأمة إذا لم تناقض مبادئ الحكومة»، كانت هذه الأفكار، خاصة المتعلقة بكتاب «مونتسكيو»: «تأملات فى أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» تعكس رغبة أصيلة عند «الطهطاوي» فى أن يجد لنفسه جوابًا عن السؤال الذى طرحه «ابن خلدون» (١٣٣٢– ١٤٠٦) فى مقدمته وهو: «كيف تنهار الحضارات ولماذا؟ وبالتالى، كيف تبنى الأمم والحضارات؟ لقد وعىَ «الطهطاوي» بواقعة انهيار الحضارة الإسلامية، ورأى الهوة التى باتت تفصل بين أمته وبين أمة «الإفرنج» التى اطلع على حياتها وتقدمها فى فرنسا، وكانت المسألة التى أرَقته وراح يبحث لها عن حل هى: كيف السبيل إلى التمدن والتقدم؟
وقد تميز «خير الدين التونسي» عن غيره من أقطاب «التنوير» فى القرن التاسع عشر فى أنه جمع بين شخصية المفكر ورجل السياسة، الأمر الذى جعله صاحب تجربة فريدة بين التجارب التى خاضها غيره من رجال الإصلاح فى البقعة العربية الإسلامية، كذلك المواقع السياسية التى شغلها مكنته من أن يحقق بعضًا من أفكاره الإصلاحية التى جاء بها كتابه: «أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك»، كان «التونسي» العقل المدبر للإصلاح فى تونس، مما يعنى أنه استحق لقب «أبو النهضة»، فقد أراد تحديث البنى والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتطهير الدولة من الأشخاص المفسدين وإصلاح الاقتصاد، أيضًا مهد لذلك اللقاء الحضارى بين الغرب والإسلام.
وشملت إصلاحاته كل نواحى الحياة، من الصحافة إلى التربية والتشريع والقضاء إلى إحياء الحرف والصناعات الصغيرة التى كانت فى طريقها إلى الانقراض، وعندما بدأ «التونسي» من مشكلة البحث عن الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية وتنمية أسباب تمدنها ورقيها، (والذى يقصده بحسن الحال وبالتمدن هو توسيع دوائر العلوم وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة وترويج سائر الصناعات ونفى أسباب البطالة) لفت نظره ما حققه الغرب -خاصٌة «فرنسا» فى المدنية الحديثة- من تطور فى مفهوم «الديمقراطية»، فبدأ باستحداث مجلس شورى منتخب يتكون من رجال ذوى كفاءة علمية وثقافية، يأخذون على عاتقهم إصلاح حال الأمة، كما أنه وضع حدًا نهائيًا لحكم الفرد الواحد ومراقبة ما يجرى على صعيد الدولة والمؤسسات، وقد أراد «التونسي» من إنشاء هذا المجلس التمثل بالحياة السياسية فى الغرب، فالحاكم -فى هذه المجتمعات– لا يمثل تلك السلطة المستبدة التى تظل فى منأى عن أى رقيب أو حسيب، وإنما يمثل الشعب وطموحاته وآماله ونزوعه نحو التقدم والرقى، لذلك رأى -بعد أن وقف على النظم والمؤسسات الديمقراطية فى فرنسا- أنه لا خلاص لتونس مما هى عليه من تأخر وفقر ما لم تسلك الطريق الديمقراطي، وما لم تلجأ إلى التحديث سبيلًا إلى النهضة والتقدم. 
أما «جمال الدين الأفغاني» فكان يعلم أن انتصارات الغرب إنما تحققت بفضل التقدم الهائل فى مجال المعرفة وتطبيقاتها العملية الملموسة، كما كان يعلم أيضًا أن ضعف الشرق - متمثل فى الدول الإسلامية- راجع إلى الجهل والتأخرعن ركب الحضارة فى المدنية الغربية، وعلى الرغم من أهمية فكرة «المدنية» عند الأفغاني، من حيث ارتباطها بمعنى «التقدم» الذى كان ينشده ويسعى إليه، إلا أنه حذر من خطر التوسع الأوروبى فى الأقطار العربية الإسلامية؛ ودعا إلى مقاومة هذا التوسع والسعى إلى وحدة وطنية، ودعا أيضًا إلى قيام حكومات دستورية تحقق إصلاحات اجتماعية تؤدى إلى جعل الأمم الإسلامية فى مصاف الأمم الغربية، يقول فى «العروة الوثقى»: «إن الممالك الإسلامية إنما هى من الانحطاط والهوان بحيث لا تستطيع أن تكون قوامة على شئون نفسها بنفسها، فى حين أن تلك الدول عينها لا تكف عن التذرع بألوف الذرائع، حتى بالحرب والحديد والنار، للقضاء على كل حركة من حركات النهضة والإصلاح فى البلاد الإسلامية، ومن ثم يجب على العالم الإسلامى أن يتحد فى حلف دفاعى كبير ليستطيع بذلك أن يصون نفسه من الفناء، وللوصول إلى هذه الغاية إنما يجب عليه أن يأخذ بأسباب التقدم فى الغرب».